وعلى رغم أن كثيراً من الأميركيين ينظرون إلى القارة الأوروبية على أنها قارة عجوز، نائية، لا يستطيعون- وهم الذين يقطنون في قارة لا تزال في ريعان شبابها- التواصل معها بسبب الافتقار إلى لغة مشتركة، فإن الحقائق الموجودة على الأرض، وفي المدن، والأحياء، والتجمعات، وقاعات اجتماعات مجالس إدارة الشركات والمؤسسات، وأروقة السلطة، تشير كلها إلى حالة تختلف تمام الاختلاف عن الحالة التي اعتدنا نحن الأميركيين- تخيّلها عندما نتحدث عن القارة الأوروبية. وإذا ما كان الأميركيون يبالغون إلى حد الإفراط في تقدير قيمة نمط حياتهم، ويضفون عليه في الكثير من الأحيان مزايا لا يستحقها، فإنهم يقومون من ناحية أخرى بالتهوين من شأن مخزون أوروبا وتراثها الحضاري، ويبخسونه حقه. وما نريد قوله باختصار هو أن أميركا غير واعية، كما أنها ليست مستعدة على ما يبدو- حتى الآن على الأقل- لمواجهة التغيرات الشاملة التي تعمل بشكل حثيث على تغيير شكل قارة أوروبا، وتحويلها من قارة تتكون من مجموعة من الدول المتباينة، المتنافسة، والتي خاضت حروباً ضد بعضها بعضاً في الماضي، إلى كيان جديد تماماً، يمكننا أن نطلق عليه دون أي قدر من المبالغة اسم (الولاياتالمتحدة الأوروبية). \r\n حقائق غائبة \r\n بداية، دعونا نبدأ بسرد بعض الحقائق التي قد تغيب عن أذهان الكثيرين منا. الحقيقة الأولى: هي أن غالبية الناس في العالم لا تزال حتى هذه اللحظة تعتقد أن الاقتصاد الأميركي هو أكبر اقتصاد في العالم- وهو اعتقاد غير صحيح على الإطلاق. والصحيح هو أن الناتج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي، والذي يبلغ في مجموعه 5.10 تريليون دولار، قد أصبح يفوق الناتج المحلي للولايات المتحدة الأميركية بمقدار 100 مليار دولار. حسناً هذا عن الاقتصاد، ولكن ماذا عن التجارة؟ في مجال التجارة أيضاً، سنجد أن الإحصاءات التي تطالعنا بالغة الدلالة، لأنها تكشف لنا عن حقائق جديدة سوف تغير فكرتنا عن الكثير من الأشياء التي كنا نعتبرها بمثابة الحقائق الراسخة. ماذا ستكشف لنا هذه الإحصاءات؟ ستكشف لنا مثلا، أن أوروبا التي يبلغ عدد المستهلكين فيها 455 مليون إنسان، قد أصبحت تمتلك أكبر اقتصاد داخلي على مستوى العالم بأسره في الوقت الراهن، بل وإنها قد تحولت إلى أكبر قوة اقتصادية في هذا العالم، وإن عملتها (اليورو) قد غدت أقوى من الدولار الأميركي. كل ذلك أصبح بمثابة الحقائق الثابتة التي لا سبيل إلى إنكارها، والتي كان الخبراء الاقتصاديون الأميركيون، لا يتخيلون إمكانية تبلورها في الواقع العملي على الإطلاق منذ أربع سنوات فقط. \r\n مقارنات خاطئة \r\n يقودنا ذلك إلى سؤال آخر هو: ما هو السبب الذي يجعل معظم الأميركيين لا يبدون اهتماماً كافياً بالتغييرات الدراماتيكية التي تتم في أوروبا في الوقت الراهن. ولماذا لا يتابعون خطاها وهي تمضي في طريقها نحو تحقيق الاتحاد السياسي والاقتصادي الكامل لدولها؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن عدم قيام معظم الأميركيين بذلك يرجع في الأساس إلى خلل في الإدراك، أو خلل في الطريقة التي يفهم بها الأميركيون الأمور. ولكن ما سبب ذلك الخلل؟ سببه في رأيي هو أننا نحن معشر الأميركيين- ومعنا معظم الأوروبيين كذلك- ما زلنا نقوم حتى هذه اللحظة بالمقارنة بين كل دولة أوروبية على حدة من جانب، وبين الولاياتالمتحدة الأميركية من الجانب الآخر، عندما نقارن بين القوة السياسية والاقتصادية لكليهما. ولكن المقارنة بهذا الشكل خاطئة، ولن تفيدنا بشيء، كما أنها ستفقد أهميتها مع مرور الوقت وتصبح غير ذات صلة. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الدول الأوروبية المختلفة قد أصبحت تشكل أجزاء من كيان جامع هو الاتحاد الأوروبي، تماما كما أن الولايات المختلفة تشكل أجزاء من الكيان الجامع المعروف باسم الولاياتالمتحدة الأميركية. وهذا التغيير في أسلوب الإدراك، وفي النظر إلى الأمور، هو الذي سيغير الطريقة التي نقوم باتباعها عند إجراء المقارنات بين أوروبا والولاياتالمتحدة، وهو الذي سيضمن سلامة الاستنتاجات التي سنتوصل إليها عندئذ. فعلى سبيل المثال، وبدلا من القيام بالمقارنة بين ألمانيا وحدها وبين الولاياتالمتحدة، فإننا يجب أن نقوم بالمقارنة بينها وبين ولاية واحدة فقط من الولايات الأميركية مثل كاليفورنيا على سبيل المثال، على اعتبار أن الاقتصاد الألماني هو الأكبر في أوروبا، وأن اقتصاد كاليفورنيا هو الأكبر في الولاياتالمتحدة الأميركية. وعندما نبدأ في تغيير الطريقة التي نقوم بإجراء المقارنات بها، فإننا سنجد أن كل شيء قد تغير فجأة، وسنبدأ حينها في إدراك جسامة ما يتكشف أمامنا، وأبعاده السياسية الهائلة، وآثاره بعيدة المدى على الولاياتالمتحدة الأميركية. ومما يذكر في هذا السياق أن الناتج المحلي لألمانيا والذي يبلغ 866.1 مليار دولار أميركي، يتفوق على اقتصاد ولاية كاليفورنيا الذي يبلغ 344.1 مليار دولار أميركي. أما بريطانيا وهي ثاني أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا، والتي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 4.1 تريليون، فيفوق اقتصادها اقتصاد ثاني أكبر ولاية لدينا وهي نيويورك، التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 799 ملياراً وذلك بمقدار مرتين تقريباً. أما اقتصاد فرنسا فيزيد بنسبة خمسين في المئة اقتصاد ثالث أكبر ولاية لدينا من حيث القوة الاقتصادية وهي تكساس. واقتصاد إيطاليا أكبر بمرتين من اقتصاد رابع ولاية لدينا وهي فلوريدا، في حين أن اقتصاد أسبانيا يفوق اقتصاد خامس ولاية من ولاياتنا وهي إلينوي. \r\n مؤشرات التفوق الأوروبي \r\n وعلى رغم أنه قد يكون من المؤلم نفسياً ومعنوياً لكل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا، أن نقوم بعقد مقارنة بين اقتصاداتها وهي الدول المرموقة في هذا العالم، وبين اقتصادات ولايات لا تشكل سوى أجزاء من الولاياتالمتحدة الأميركية مثل كاليفورنيا ونيويورك وتكساس وفلوريدا وإلينوي، إلا أن تلك الدول يجب ألا تبتئس، أو تظن أننا نحاول النيل من كرامتها، لأن هذه الطريقة في الحقيقة هي الطريقة التي يجب أن يتم بها إجراء المقارنات بين أوروبا وأميركا في وقتنا هذا الذي يشهد تحول أوروبا إلى فضاء سياسي انتقالي أكبر وإلى اقتصاد موحد. ويمكن القول إن الاتحاد الأوروبي في واقع الأمر، قد أصبح يمثل قوة اقتصادية عظمى تشكل منافساً خطيراً لمثيلتها الأميركية على المسرح العالمي. فالكثير من الصناعات الرئيسية في العالم أصبحت أوروبية، وشركات أوروبا هي التي أصبحت تهيمن حالياً على قطاع الأعمال والتجارة في العالم، كما أن مصارفها أصبحت هي المسيطرة على قطاع المعاملات المالية في أركان المعمورة الأربعة. ومما يذكر أيضاً في هذا السياق، أن هناك 14 مصرفاً أوروبياً، تأتي حالياً ضمن قائمة المصارف الكبرى العشرين على مستوى العالم، وأن ثلاثة من هذه المصارف الأربعة عشر تأتي ضمن قائمة أكبر أربعة مصارف في العالم وهي ( دويتشي بانك) و( كريدي سويس) و( بي إن بي باريباس). وفي قطاعي الصناعات الكيماوية، والهندسية، وقطاع البناء والإنشاءات، وصناعة الطيران والفضاء، وصناعة الأغذية، والصناعة الاستهلاكية، والصناعة الدوائية، وقطاع التأمين، سنجد أن أداء الشركات الأوروبية قد أصبح يفوق أداء نظيرتها الأميركية بكثير. ويكفي لنا في هذا السياق أن نعرف أن هناك 61 شركة من بين ال140 شركة الكبرى في العالم وفقاً لتصنيف مجموعة (جلوبال فورتشين 500)، هي في الأساس شركات أوروبية، في حين أن عدد الشركات الأميركية في هذا التصنيف لا يزيد على 50 شركة. وليس قصدنا من إيراد كل تلك الإحصاءات، الإيحاء بأن الشركات الأوروبية قد تفوقت - وبهذه المسافة الكبيرة- على نظيرتها الأميركية بين عشية وضحاها، أو أن أوروبا قد حسمت كل شيء لصالحها. فالحقيقة هي أن الشركات والمشروعات الأوروبية وإن كانت تحتل موقع الصدارة في السوق في القطاعات المذكورة، إلا أن الشركات الأميركية لا تزال تهيمن على قطاعات أخرى كثيرة. لقد كان قصدنا من بيان تلك الإحصاءات توصيل رسالة معينة إلى أذهان القراء تقول إن الشركات العالمية التي تتخذ من القارة الأوروبية قاعدة لها، قد باتت قادرة على منافسة نظيراتها الأميركية في الكثير من الميادين بل والتفوق عليها أيضاً. والجزء الأكبر من الإمكانات المستقبلية للاتحاد الأوروبي مستمد في الأساس من قدرته على خلق فضاء واسع للتبادلات الداخلية، وعلى خلق سوق تجارية شاملة ثم الربط بين الاثنين بروابط متينة بما يضمن تدفق الحركة والأموال بين دول الاتحاد في سهولة ويسر. ومما يجدر ذكره في هذا السياق، أن الاتحاد الأوروبي قد بدأ بالفعل في إنشاء شبكة مواصلات شاسعة تمتد إلى مختلف أنحاء القارة الأوروبية، بهدف تحقيق التكامل في مجال شبكات الكهرباء والطاقة، كما بدأ أيضاً في مد شبكة اتصالات مشتركة، وإنشاء سوق خدمات مالية موحدة، وخلق إطار تنظيمي عام يمكن من خلاله تنفيذ وإجراء الأعمال المختلفة في أنحاء القارة. بالإضافة إلى ذلك يعمل الاتحاد الأوروبي على استكمال إنشاء المنظومة ب (منظومة الشبكات العابرة لأوروبا). وهذه المنظومة ستغطي قطاعات الطاقة والمواصلات والاتصالات، وستهدف إلى ربط أوروبا كلها بواسطة شبكة موحدة من وسائل الاتصالات المتطورة التي تعتمد على وسائل التقنية الفائقة . ومن المتوقع أن تصل فاتورة تكاليف توحيد أوروبا التي سيتم تمويلها من قبل حكومات الدول الأوروبية والقطاع الخاص في تلك الدول في المقام الأول، إلى 500 مليار دولار، بل وربما تزيد على ذلك. لا يعني هذا أن كل شيء يسير على ما يرام، أو أن المسيرة الأوروبية تمضي دون عقبات، فالحقيقة هي أنه لا تزال هناك بعض العقبات التي تعترض طريق الوحدة الأوروبية، منها على سبيل المثال تلك المتعلقة بخلق سوق داخلي مترابط يمتد عبر القارة الأوروبية ويصل إلى دول وسط وشرق وجنوب أوروبا العشر التي انضمت مؤخراً إلى الاتحاد الأوروبي، والتي لا تزال اقتصاداتها متأخرة بمسافة كبيرة عن اقتصادات دول غرب وشمال أوروبا الأكثر ثراءً، بهدف دمج تلك الدول تماماً في منظومة الاقتصاد الأوروبي في النهاية. ومع ذلك، ينبغي علينا القول إن الإنجازات الإيجابية التي تحققت في طريق الوحدة الأوروبية حتى الآن، تفوق بكثير العقبات التي لازالت تحول دون تحقيقها. والشيء الذي لا يقل عن ذلك أهمية هو أن اللغة الإنجليزية التي تمضي حثيثاً كي تكون هي اللغة الموحدة لأوروبا بأسرها (يتم استخدامها حالياً كلغة أولى للتعليم في العديد من المدارس والجامعات الأوروبية وخصوصاً في مناهج العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية)، ستجعل الأوروبيين قادرين على تبادل العمالة والبضائع والخدمات دون عوائق، وبدرجة من السهولة واليسر تماثل تلك التي يتم بها ذلك داخل السوق الأميركي نفسه قبل حلول عام 2020- كما يتوقع الخبراء. \r\n إحصاءات تثير الدهشة \r\n والأميركيون المعتادون دائماً على النظر إلى بلدهم باعتباره البلد الأكثر نجاحاً، والأكثر رفاهية في العالم، سيشعرون بالدهشة البالغة عندما يعرفون أن الأمر لم يعد كذلك، وأن أوروبا قد تفوقت عليهم في هذا المجال. نعم سيشعر الأميركيون بالدهشة عندما يعرفون مثلا أنه يوجد في دول الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي 322 طبيباً لكل 100 ألف من السكان في المتوسط.. في حين أن هذا المعدل لا يزيد على 279 طبيباً لكل 100 ألف من السكان في الولاياتالمتحدة. وسيشعرون بالدهشة أيضاً عندما يعرفون أن الولاياتالمتحدة أصبحت تحتل المرتبة السادسة والعشرين بين الدول الصناعية بالنسبة لمتوسط وفيات الأطفال، وعندما يعرفون أن متوسط عمر السكان في 15 دولة من دول الاتحاد الأوروبي يبلغ الآن 2.78 سنة في حين أنه لا يزيد عن 9.76 سنة في الولاياتالمتحدة.. بل إن الطلاب في 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي يتفوقون على نظرائهم في المدارس الأميركية في معرفتهم بالرياضيات، و في ثماني دول من دول الاتحاد يتفوقون عليهم في المعرفة بالمواد العلمية. أما فيما يتعلق بتوزيع الثروة - وهو مقياس في غاية الأهمية من ناحية أنه يدلنا على قدرة الدولة على الوفاء بوعودها في تحقيق الرخاء لشعبها- فإننا سنجد أن الولاياتالمتحدة تأتي حالياً في المرتبة الرابعة والعشرين بين الدول الصناعية. وفي البلدان الأوروبية الثمانية عشر الأكثر نمواً، سنجد أن حالات عدم المساواة في الدخل بين الأغنياء والفقراء في تلك الدول، تقل عن مثيلتها في الولاياتالمتحدة الأميركية. ويذكر في هذا السياق أيضاً، أن أعداد الفقراء الذين يعيشون في الوقت الراهن في الولاياتالمتحدة الأميركية تفوق بكثير ما هو موجود في الدول الأوروبية الستة عشر التي تتوافر لدينا بيانات وإحصاءات عنها. وأميركا إلى جانب ذلك أصبحت في الوقت الحالي دولة تعتبر الحياة فيها أكثر خطورة عن مثيلتها في أوروبا، حيث تزيد نسبة جرائم القتل فيها في الوقت الراهن عن نسبتها في دول الاتحاد الأوروبي. والأمر الأكثر إثارة للقلق والإزعاج في هذا السياق، هو أن معدل جرائم القتل التي يتم ارتكابها ضد الأطفال في الولاياتالمتحدة، ومعدل حوادث الانتحار، وحالات الوفاة المرتبطة باستخدام الأسلحة النارية تزيد فيها عن تلك الموجودة في الدول الخمس والعشرين الأكثر ثراء في العالم، ومن بينها 14 دولة أوروبية. وعلى رغم أن سكان الولاياتالمتحدة يشكلون أربعة في المئة من عدد سكان العالم فقط، فإن الشيء المثير للدهشة هو أن سجونها تضم ربع عدد المسجونين في العالم بأسره. ففي حين يبلغ عدد المساجين في الاتحاد الأوروبي87 سجيناً لكل 100 ألف نسمة من السكان، فإن هذا العدد في الولاياتالمتحدة وصل إلى حد لا يصدق وهو685 سجيناً لكل 100 ألف نسمة من السكان. وعادة ما يشير الأوروبيون إلى الأميركيين على أنهم قوم )يعيشون كي يعملوا) في حين أنهم - أي الأوروبيون- (يعملون كي يعيشوا). ولكننا عندما نطالع البيانات والإحصاءات التي تبين لنا ما يحدث على أرض الواقع، فسنعرف مثلا أن متوسط فترة الإجازات مدفوعة الأجر في أوروبا في الوقت الراهن يصل إلى ستة أسابيع سنوياً في المتوسط في حين أنها لا تزيد على أسبوعين فقط في المتوسط في الولاياتالمتحدة الأميركية. وأن المدة التي يستغرقها الأوروبيون في الذهاب إلى مقار أعمالهم والعودة منها إلى منازلهم يومياً تقل عن 19 دقيقة، وهي مدة تقل كثيراً عن المدة التي يقضيها الأميركيون في ذلك. إن المرء عندما يفكر في الأسباب التي تجعل من أمم بعينها أمماً عظيمة، وعندما يفكر في الأشياء التي تشكل في مجموعها أسلوب الحياة الأفضل، فإنه سيدرك حينئذ أن أوروبا قد بدأت تتفوق على أميركا في الكثير من الميادين. \r\n ملامح الحلم الأوروبي \r\n إن الميلاد الجديد لأوروبا كان مدفوعاً في الأساس بالحلم الأوروبي الجديد، ذلك الحلم الذي تتبلور معالمه أمامنا بالتدريج كي تكشف لنا أنه حلم مختلف عن نظيره الأميركي الأقدم عمراً في الكثير من النواحي. وليس هناك مجال يمكن أن تتبدى فيه تلك الحقيقة أوضح من مجال الحريات الشخصية: فبالنسبة للأميركيين كان معنى الحرية يرتبط دائماً بمعنى الاستقلال الذاتي. فعندما يكون المرء مستقلا ذاتياً -وفقاً للمنظور الأميركي- فإنه لا يجد نفسه في تلك الحالة مضطراً للاعتماد على الغير، أو معرضاً للسقوط أو الخطر بفعل الظروف الخارجية، التي لا يستطيع السيطرة عليها أو التحكم فيها. ولكي يكون المرء مستقلا ذاتياً، فإنه بحاجة إلى جانب ذلك- ووفقاً للمنظور الأميركي أيضاً- لأن يكون من ذوي الأملاك. فكلما ازداد مقدار الثروة التي ينجح المرء في تجميعها ومراكمتها عبر الزمن، كلما أصبح أكثر قدرة على العيش مستقلا في هذا العالم. فالمرء يكون مستقلا عندما يكون معتمداً على ذاته، ومستغنياً عن الآخرين. فالثروة هي التي تأتي بالملكية، ومع الاثنتين تأتي الخصوصية. وعندما تتوافر الخصوصية للمرء، ويصبح متميزاً عن غيره فإنه يزداد عندئذ إحساساً بالطمأنينة والأمن. بيد أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للأوروبيين، فهم لا يجدون الحرية في الاستقلال الذاتي، وإنما في الاندماج مع الغير؛ أي في أن يكون الإنسان عبارة عن كيان مغروس في أرض تحتويه كما تحتوي غيره. وهكذا فإنه كي يكون المرء حراً وفقاً للمنظور الأوروبي، فإنه يجب أن يتمتع بالقدرة على الوصول إلى الغير، وبالقدرة على الدخول في علاقات مع آخرين يتكاملون معه، وينشأ بينهم نوع من الاعتماد المتبادل. وكلما ازداد عدد الجماعات التي يستطيع الشخص الاندماج فيها، كلما ازداد عدد الخيارات المتاحة أمامه كي يعيش حياة مليئة بالجدوى والمعنى. فالاندماج مع الغير إذن، والدخول في نسيج الجماعات، والانتماء إليها، هو الذي يشكل العناصر التي تتضافر كلها في النهاية لتحقيق الأمان للشخص. إنه منظور يختلف تمام الاختلاف عن المنظور الأميركي... أليس كذلك؟ \r\n الحلم الأميركي \r\n والحلم الأميركي يركز بشكل خاص على النمو الاقتصادي، وعلى الثروة الشخصية والاستقلالية. أما الحلم الأوروبي الجديد فيركز بشكل أكبر على التنمية المستمرة، وعلى نوعية الحياة الأفضل، والاعتماد المتبادل بين البشر. والحلم الأميركي يحتفي بأخلاقيات العمل، في حين أن الحلم الأوروبي أكثر احتفاء بأوقات الفراغ. والحلم الأميركي لا ينفصل عن التراث الديني للأمة، وإيمانها الروحي العميق. أما الحلم الأوروبي فهو حلم علماني حتى النخاع. والحلم الأميركي يعتمد على قدرة الفرد على الاندماج في نسيج المجتمع ، ونجاحه في التخلص من روابطه العرقية القديمة والتحول إلى مجرد عنصر من العناصر التي تتجمع في البوتقة الأميركية كي تنصهر فيها في النهاية. الحلم الأوروبي، على النقيض من ذلك، يقوم على المحافظة على الهوية الثقافية للشخص، وعلى السماح لذلك الفرد بالحياة في مجتمع متعدد الثقافات. الحلم الأميركي مقترن بحب الوطن والوطنية، بينما الحلم الأوروبي أكثر كوسموبوليتانية (عالمية) وأقل إقليمية. والأميركيون أكثر رغبة في توظيف القوة العسكرية لحماية ما يعتبرونه مصالح حيوية، أما الأوروبيون فهم أكثر عزوفاً عن استخدام القوة العسكرية، ويفضلون بدلا منها الدبلوماسية، وتقديم المساعدات الاقتصادية والمعونات، لتجنب الصراعات، كما أنهم يفضلون عمليات حفظ السلام لتحقيق الاستقرار في العالم. \r\n ملاحظات على الاتحاد الأوروبي \r\n ليس قصدنا من كل ذلك القول إن أوروبا قد تحولت فجأة، وبقدرة قادر، إلى يوتوبيا أو إلى قارة فاضلة أو فردوس أرضي... لا، ليس هذا ما قصدناه على الإطلاق؛ فأوروبا وعلى الرغم من كل ما تتشدق به عن الهوية بشكل عام، والهوية الثقافية بشكل خاص، أصبحت أكثر عدائية ضد المهاجرين، وأكثر جفاء في التعامل مع طالبي اللجوء بنوعيه السياسي والاقتصادي. فالصراعات العرقية، والحوادث المتكررة ضد الأجانب والمهاجرين، وطالبي اللجوء السياسي التي لازالت تقع بين آن وآخر في عدد من الجيوب في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، تكشف لنا بوضوح عن انعدام روح التسامح في القارة الأوروبية. والعداء للسامية بدوره عاد للظهور مجدداً في أوروبا، كما أن حالات التفرقة والتمييز ضد المسلمين، وغيرهم من الأقليات الدينية، التي توجد فيها حالياً قد ازدادت هي الأخرى. وعلى رغم أن شعوب أوروبا تشجب الهيمنة العسكرية الأميركية، وتدين سياستها الخارجية التي تصفها بأنها نوع من السياسة العدوانية القائمة على إشعال نيران الحروب والصراعات في مناطق مختلفة من العالم، فإن تلك الشعوب عبرت في مناسبات عديدة، عن رغبة قوية في أن يقوم الأميركيون بحماية أمنهم. وهو موقف أقل ما يقال عنه إنه يتسم بالمفارقة والتناقض. من ناحية أخرى، هناك كثير من النقد الموجه إلى الاتحاد الأوروبي والذي يقول إن المقر الرئيسي للاتحاد في بروكسل قد تحول إلى متاهة من الأجهزة البيروقراطية الفرعية، التي تغلب عليها الشكليات والرسميات والإجراءات المعقدة التي لا داعي لها، وإن المسؤولين فيه يتعاملون باستعلاء مع المواطنين الأوروبيين، ولا يستجيبون لمطالبهم، على الرغم من أنهم قد جاءوا في الأصل من أجل خدمتهم. أما فيما يتعلق بالسؤال الذي قد يحلو للبعض منا طرحه في هذا السياق، وهو ذلك المتعلق بما إذا كان الأوروبيون قد ارتقوا إلى مستوى حلمهم أم لا؟ فإنني أرى أنه ليس من حقنا أن نقوم بتوجيه مثل هذا السؤال إلى الأوروبيين أو إلى غيرهم. والسبب في ذلك بسيط في الحقيقة وهو أننا نحن الأميركيين - لم نرتق في الأصل إلى مستوى حلمنا. الأمر الأكثر أهمية من طرح هذا السؤال أو غيره، هو أن أوروبا قد اخترعت رؤية جديدة للمستقبل، وأن هذه الرؤية تختلف عن رؤيتنا في العديد من النواحي الجوهرية. فهذه الخلافات الجوهرية في رأيي- هي التي يجب أن تكون موضعاً لاهتمامنا، وهي التي يجب علينا فهمها جيداً، إذا ما كنا نريد أن نفهم آلية التغيرات التي بدأت تتكشف ملامحها أمامنا شيئا فشيئا، والتي ستساهم في النهاية في بلورة شكل العلاقة بين أكبر قوتين في عالمنا طيلة القرن الحادي والعشرين بأسره. منذ مائتي عام تقريباً، قام الأباء المؤسسون للولايات المتحدة بنسج خيوط حلم جديد للبشرية، وهو حلم ساهم في تحويل شكل العالم في ذلك الوقت وما بعده. أما اليوم، فإن الشيء الذي نراه أمامنا بوضوح، هو أن هناك جيلا جديداً من الأوروبيين يعكف الآن بدأب على نسج خيوط حلمه الخاص، وأن هذا الجيل يرى أن حلمه الجديد أكثر ملاءمة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في عالمنا هذا الذي يزداد عولمة باطراد، والذي تزداد أجزاؤه تداخلا وقرباً من بعضها بعضاً يوماً بعد يوم. وربما يكون لدى أصدقائنا الأوروبيين الكثير مما يمكن أن يعلموه لنا في هذا المجال. \r\n