حشود مندفعة هوجاء وكتل بشرية تسير بشكل عشوائي .. تهرول ، تتسابق ، تتصادم ، يحاول كل فرد اللحاق بالدخول ، والجلوس على أقرب مقعد إن إمكن ، إشمئزاز من رائحة العرق والأنفاس المتقاربة .. الكل يتجه بأنظاره إلى السقف ، كأنه يطلب الرحمة من الله والنجاة من هذا الزحام البالغ ، والبعض ينظر إلى باب عربات المترو الذي ينغلق آليا مانعا اقتحام مزيد من البشر إلى الداخل ، أطلقت زفرة حارة وأنا امسح جبيني المتصبب عرقا من شدة الحرارة ، لفت نظري رجلا يتحدث فى هاتفه الجوال بصوت مرتفع ، بجانبه فتاة تحمل شعار " قليل من الجمال كثير من الطلاء " لم تتجاوز العشرين من عمرها ، ترتدي " تشيرت " أصفر اللون يشف ما تحته ، بنطلون ضيق يبرز عضلات الساقين وحجاب مزركش اللون ، تضع فى أذنيها سماعة ، لا تبالي بمعاكسة أحد الركاب وهو يتغزل فى جسدها وملابسها وسط صمت جميع الحاضرين ، ربما اعتادت الأمر وربما ألفته .. امرأتين لا تكفان عن النقاش والشكوى من ضيق الحال وارتفاع الأسعار والمعيشة النار .. شيخ يجلس ويقرأ القرآن بصوت عال كأنما يريد أن يسمعه البعض أو يريد أن يسكت به صخب الركاب فى العربة .. فتى مراهق يستمع إلى اغنية شعبية رائجة صادرة من هاتفه النقال ، طلبت منه أن يخفض صوتها .. نظر إلي فى سخرية قائلا : فكك مني يا نجم ثم أضاف فى وقاحة : اللي مش عاجبه ينزل من المترو ويركب تاكسي .. رجلان يتحدثان كل منهما إلى الآخر بشكل أشبه إلى المشاجرة ، عن أحوال البلاد والاقتصاد واللي فات واللي مات كلما توقف المترو فى محطة ، خرج بعض الركاب وكأنهم بعثوا من قبورهم ، ودخل مكانهم مجموعة أخرى فى تدافع وتشابك ، بعضهم يدوس الأقدام والبعض الآخر يصطدم بالأكتاف .. وعندما أنظر إليهم بعتاب ، اجد نظرات من البرود والعبوس .. وصلت إلى عملي ، الجميع متأخر كالعادة ، بسبب المواصلات .. يتحدث أحدهم فى هاتف المكتب بشكل دوري ومستمر غير آبه ، أخبرته أنه هاتف يخص الشركة وليس هاتف شخصي ، اجابني فى استفزاز قائلا : كبر يا راجل ، بلاش المثالية دي .. بعد مرور فترة قصيرة فوجئت بعضهم ترك المكان وحصل على إذن بحجة المرض ولكنه كان بداعي البحث عن فرصة عمل اخرى أو زيادة الدخل فى وظيفة تالية إقبال كثيف من الموظفين على شحن هواتفهم من كهرباء الشركة . وصلت منزلي ، قررت أن أخذ حماما باردا من أثر الحرارة المرتفعة ، ثم الحصول على قسط إضافي من النوم ، استعدادا لحضور دعوة شقيقتي على العشاء .. عندما استلقيت على فراشي تناهى إلى مسامعي صوت بائع الفاكهة وهو يصيح بصوته الأجش ، خرجت إليه وأخبرته أن هناك من يريد النوم والراحة ، وهناك المريض والذي يريد المذاكرة .. ضحك فى بلاهة مصطنعة قائلا : يا بيه كبر دماغك .. واستمر ينادي على فاكهته دون اكتراث . عدت إلى فراشي مرة آخرى .. تناهى إلى مسامعي صوت جاري السيد عويس فى الشقة المجاورة ، وهو يتشاجر مع زوجته بصوت عال على مصرف البيت والإيجار ورسوب بعض أبنائه .. نظرت إلى ساعتي ، علمت انه الوقت اليومي المحدد للشجار .. فى المساء ، ذهبت إلى منزل شقيقتي تلبية لدعوتها على العشاء ، استقبلني زوجها بدفء وترحاب .. جلسنا قليلا نتحادث فى أمور الحياة والمعيشة ، فاتحتني شقيقتي فى أمر الزواج للمرة الألف وأجبتها باني لم اجد الزوجة المناسبة بعد .. ربت صديقي على كتفي قائلا فى دعابة ومرح : ما تستعجلش .. وأشار بأصبعه إلى شقيقتي قائلا .. الجواز لحظة .. ابتسمت وأنا انظر إلى شقيقتي وهي تشير إليه بالوعيد فى حركة تمثيلية ، ثم التفتت إلي بمزيج من الجد والاهتمام قائلة لي وماذا تطلب فى مواصفات الزوجة المناسبة ؟ مررت باصابعي فوق رأسي وانا اقول لها انني اطلب الزوجة المناسبة وليست الزوجة المستحيلة .. وهناك فرق بين الزوجة وبين المرأة التي تريد الزواج ، بين الام وبين من تتمنى ان تنجب فحسب . نظر إلي صديقي فى بلاهة ولسانه يتدلى قائلا : يعني أيه ؟ فغمزت له بعيني أنني أبحث عن زوجة مثل شقيقتي .. ثم قالت هي فى زهو ، يبقى مش هتلاقي . عدت إلى منزلي ، شاهدت التلفاز قليلا .. قنوات فضائية كثيرة تصيب العين بالتشويش والأذن بالطنين .. حوارات مملة .. نفس الوجوه .. بحثت فى الثلاجة عن مياه غازية او "فوار " لهضم هذا العشاء الدسم .. وعلى فراشي . قبل أن أغفو ، سمعت أصوات غريبة فى شقة جاري السيد عويس ، كانت ضحكات وحديث هامس ، أيقنت انه اللقاء الحميمي بينه وبين زوجته ، نظرت إلى ساعة الحائط ، وقلت لنفسي تماما ، انه الموعد المحدد للمصالحة ، وضعت فى أذني قطنا ، القيت براسي على الوسادة ، على الاقل حتى استيقظ غدا فى الصباح والذهاب إلى عملي .