"تأبَّطَ شرًّا" تبدو لك: جملة فعلية مفيدة؛ فبِها الفعل والمفعول به، والفاعل (ضمير مستتر تقديره هو)، فلا يمكن أن تفكر بأن هذا إسم لشخص، ولكن عبقرية العقل العربي -وهي ترصد فى مجتمعاتها الظواهر الإنسانية بالغة الشذوذ- تقدّم لك الشخص فى كبسولة مختومة باسمٍ يحمل أخص خصائصه.. تلتصق به أينما ذهب فلا يستطيع أن يتخلص منها.. وكأنها تقول لك: إحذر هنا خطر فلا تقترب منه.. هى إذن قصة واقعية لشخص حقيقى سجلها تاريخ الأدب العربي: الإسم الذى اشتهر به هو "تأبَّط شرًّا".. وكان واحدا من أبرز شعراء الصعاليك؛ له ديوان شعر وله مغامرات وغزوات بين قبائل العرب فى عصر الجاهلية؛ كان اسمه عند مولده (ثابت بن جابر الْفَهْمِيّ( توفي نحوسنة 530 م .. لقبيلته كما ترى إسم غريب؛ هو (قبيلة فَهْم) وكأنه يتحدّى الواقع السائد هذا الزمن الذى أصبح فيه الفهم أندر من الكبريت الأحمر.. ولأنه صعلوك لا مهنة له يتكسّب منها كان يسطو على جيرانه من قبيلتي هُذيل وكنانة..
ربما تكون هذه القصة رغم سوء ما تنطوى عليه أهون كثيرا من الاصطخاب السياسي الدائر فى مستنقع الصحافة والإعلام.. بغير عقل وبغير منطق إلا الادعاء والافتعال والكذب.. بل ربما تكون أدعى إلى الترويح عن النفس من الخوض فى هذا المستنقع..
قبيلة [فَهْم] العدنانية لاتزال موجودة الى الآن بأرض الحجاز.. أما "ثابت" فكانت أمه امرأة يقال لها: أُمَيْمَة .. ويقال أيضا أن "ثابت" هذا لم يحتفظ باسمه طويلا فقد حدثت له حادثة أفقدته هذا الإسم: ذكر الرواة أنه رأى كبشًا في الصحراء فحمله تحت إِبِطِه.. فجعل يبول عليه طول طريقه.. فلما اقترب من الحيِّ ثقل عليه الكبش فرمى به.. فإذا هو الغول.. فقال له قومه: ما تأبّطْتَ يا ثابت..؟ قال: الغول، قالوا: لقد تأبّطْتَ شرًّاً.. فسُمّيَ بذلك.. وفى رواية أخرى أن أمّهُ قالت له: "كل واحد من إخوتك إذا راح يأتيني بشيء إلا أنت.." فقال لها: "سآتيك الليلة بشيء"، ومضى فصاد أفاعي كثيرة.. من أكبر ما قَدَرَ عليه.. ثم أتى بهنّ في جراب متأبّطًا له [يعنى حمله تحت إبطه].. فألقاه بين يديها ففتحته لتفاجأ بمنظر الأفاعى وهى تسعى فى بيتها... فزعت المرأة من الأفاعي وخرجت تُوَلْول.. فقال لها نساء الحيّ: ماذا أتاك به ثابت..؟ فقالت: أتاني بأفاعٍ في جراب .. قلن: وكيف حملها..؟ قالت: تأبّطها.. قلن: لقد تأبط شرًّا .. فلزمه هذا الوصف وأصبح له لقبا لا يفارقه... عاش تأبّط شرًّا حياته شاعرا صعلوكا لا تنتهى شروره؛ فقد كان يعيش من السطو على الخيام والبيوت.. ولم يتورّع فى ذلك عن قتل من يلقاه فى طريقه ولو كانوا نساءً أوأطفالًا.. ولم يسلم من خيانته وغدْره حتى الذين أكرموه وأحسنوا إليه.. ولقد لقي مصيره العادل؛ إذ قُتل أثناء إغارته على هُذيل.. ثم وُجِدَت جثته مُلْقاةً فى مغارة مهجورة بالصحراء.. والعجيب أنه كان ينكر عن نفسه الشر وينسبه دائما إلى الآخرين .. استمِعْ إليه وهو يقول:
بمعنى أنه لا يسعى إلى الشر بنفسه.. إلا إذا حمله أو دفعه إليه آخرون.. هو كذَّاب طبعًا لم يصّدِّقه أحد فى الماضى ولا نصدّقه نحن الآن.. فهو نفسه شر لايسعى إلا لشر ولا يأتى منه إلا الشر.. وأينما تُوَجٍّهُهُ لا يأتِ بخير ..
لا بد أن نستكمل الجانب الأسطوري الذى لحق بهذه القصة؛ فلقد قيل إن تأبط شرًّا كانت له زوجات فى السِّر لا يعرفهن إلا القليل من الناس.. وأن من سلالته أناس لا يزالون أحياءً: منهم واحد فى الخليج إسمه خلفان، وآخرون هاجروا إلى أوربا: منهم اثنان من قبيلة تسمَّى "قُضاة" [لا تخلط بينها وبين قُضاعة] اكتشف الزند حديثا أحدهم فى النمسا وعرضه فى الإعلام كواحد من مناصريه ضد الأعداء.. وسار على نهجه سامح عاشور؛ إذ يقال أيضا إنه اكتشف واحدا آخر من القبيلة نفسها فى محكمة دولية..
فى الحقيقة "تأبّط شرًّا" لم يفارقنا؛ فهو لايزال إلى اليوم موجودًا بيننا.. قد يتخفَّى تحت أسماء مختلفة.. وقد يخرج علينا كل يوم وعلى وجهه قناع جديد.. لرجل أو امرأة.. ودائما ما ينتحل وظيفة مهمة: فهو إعلامي مرة وسياسي أو ناشط سياسي مرة أخرى.. وهو محامى شهير أو قاضى كبير أو رئيس نادى القضاة..أو فقيه قانوني أو خبير استراتيجى.. أو أكاديمى أستاذ فى السياسة فريد فى نوعه.. أو زعيم شباب الثوار.. أو زعيم حزب جبهة إنقاذ.. أو حتى شمشون الجبار الذى سيهدم المعبد حتما ليلا أو فى عزّ النهار.. ولكن مهما تخفّى عنك "تأبط شرًّا" فلن يخدعك.. ولسوف تتعرَّف عليه حتما من كلامه ومن سلوكه النمطيّ الذى لا يتغير: إذا تحدَّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤْتُمٍنَ خان. وتراه إذا جلس أمام الكاميرا كشَّر عن أنيابه وارتفع صوته ولعبت حواجبه استنكارًا.. وتشنجت أسارير وجهه.. يتوعّد دائما ويهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور: غدًا مليونية واعتصام أمام الاتحادية.. ثورة ثانية ستقضى على الأخضر واليابس.. ولا بأس من إحضار الملوتوف والخرطوش والرصاص الحي مجهول المصدر.. ولا مانع من العنف و إسالة الدماء واقتحام المساجد وحرق المؤسسات.. والغاية القصوى هى إسقاط الرئيس الذى فقد صلاحيته.. لماذا..؟ لأن كُرسيه كبير عليه [حبّتين] ولونه لا يعجب المعارضة.. و عليه تراب من سجاجيد المساجد التى يصلى فيها هذا الرئيس العجيب.. فما تعوّدنا أن يحرص رئيس دولة على الصلاة فى المساجد حرصه على تناول الويسكى مساءً.. و يفضِّل الفودكا مع الإفطار لأن رائحتها لا تفوح من الفمِّ عند الكلام..!
وقد رأوا أن من الأسهل تغيير الجالس على الكرسي.. ثم تفصيل كرسى آخر على مقاس الرئيس الجديد وتلوينه بلون بدلته؛ فقد يكون هو الأصفر الكاكي إذا كان ضابطا.. أو الأسود الداكن بلون ضميره إذا كان من الجبهة..
كم مرة سمعنا من "تأبّط شرًّا" عن الخروج فى مظاهرات مليونية واعتصام فى الميادين حتى يسقط الرئيس ويسقط المرشد... إضراب واعتصامات فى قناة السويس "ولن نعود حتى يسقط النظام ".. بقى من الزمن ثلاثة أشهر.. أو ثلاثة أسابيع وتقوم القيامة..! ولكن القيامة لا تقوم.. وتمضى الأشهر الثلاثة والأسابيع الثلاثة وبعدها أشهر وأسابيع أخرى ولا يسقط النظام الذى فقد شرعيته ولا المرشد الذى يحكم مصر من وراء ستار...!
ويعود المعتصمون من خيامهم إلى البيوت.. ويأوى أولاد الشوارع إلى تحت الكبارى.. والبلطجية إلى أوكارهم.. ويعود النشطاء المراهقون إلى أحضان العاهرات ليفكروا معًا فى حلقة جديدة من مسلسلات تأبَّط شرًّا .. فالنشطاء لا يستطيعون أن يهدأوا وإلا فقدوا مبرر وجودهم وانقطعت عنهم مصادر المئونة والتمويل.. وفقدوا البريق الإعلامي الذى اسوطنوا استديوهاته وأصبحوا نجومه..
جبهة تأبط شرا لا تيأس أبدا ولا تهدأ أبدا؛ بضاعتها الكذب والتضليل وتشويه الحقائق وتشويه الأبرياء وإلصاق التهم الزائفة بهم.. ولهم خبرة وباعٌ طويل فى شلّ حركة المرور.. وتعطيل القطارات.. وإيقاف عجلة الإنتاج فى المصانع.. وكل يوم يخترعون سببا جديدا لمواصلة التخريب والعصيان وتعزيز الثورة المضادة..
فإذا أعوزتهم الحيلة وتخلَّت عنهم جماهير الأمة وشعروا بالخُذْلان لجأوا إلى القوى الخارجية الكارهة لثورة الشعب.. الكارهة لاستكمال مؤسساته الدستورية؛ يستنجدون بأمريكا والاتحاد الأوربي لحصار مصر اقتصاديا تارة، ويحرِّضون الجيش للانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة تارة أخرى ..
لم ينشغلوا أبدا بهموم هذا الوطن الحقيقية، ولا بمساعدته على تحقيق استقلاله.. أوعلى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي فى إنتاج غذائه.. ولا قدّموا مشروعًا مفيدا، ولا مجرد اقتراح لإصلاح هذا الوطن المنكوب بهم.. وإنما شغلوا الناس طول الوقت بعمليات عجيبة ومشروعات أعجب: جمع توقيعات تحض الجيش للانقلاب على السلطة المنتخبة.. فإذا فشل المشروع انتقلوا إلى مشروع آخر من نوعه: جمع توقيعات لإسقاط الرئيس فى حركة جديدة تسمى تمرد.. أو الدعوة لعقد محكمة هزلية ينظمها الفلول مع المعارضة لمحاكمة رئيس الجمهورية المنتخب الذى جاءت به الثورة.. وليس الرئيس المجرم الذى قامت الثورة لخلعه .. ويسْتَبِقٌون الزمن بتشكيل حكومة موازية استعدادا للاستيلاء على السلطة عندما تسقط الحكومة الحالية..
يهدّدون دائما بحرب أهلية وشيكة أوثورة جياع.. أوانهيار اقتصادي على الأبواب.. ويعملون دائما فى هذا الاتجاه؛ بتغذية أعمال التخريب والدفع بالبلاد نحو الحرب الأهلية.. وإضعاف الدولة وتحريض القوى الأجنبية على حصارها اقتصاديًّا.. ليكون هذا مبررا لتدخل الجيش واستيلائه على السلطة.. كما يحلم البرادعى وإخوانه من جبهة تأبط شرًّا..
وتسأل مندهشًا: أين الشعب من هذا كله..؟! هل تحسب هذه الديناصرات المتخلّفة أي حساب للشعب..؟! هل يحترمون إختياراته ..؟! إنهم يقولون أن الرئيس فقد شرعيته والإخوان فقدوا تأييد الشعب لهم ويسقط يسقط حكم المرشد .. ويؤكِّدون أن أحزاب المعارضة سوف يفوزون بالانتخابات القادمة، خصوصًا بعد انتقال بكَّار وبرهامى
ومخيون وحزبهم السلفي الجديد إلى صفوفهم .. حسنًا...! والله إننى لأرجو أن أصدٌّق هذا الكلام.. وأتطلَّع بشغف إلى اليوم االذى تجرى فيه انتخابات مجلس الشعب.. وأتمنى من صميم قلبى أن أرى –فى حياتى- انتقال السلطة من حزب إلى حزب آخر سلميًّا؛ عن الطريق الديمقراطي المشروع: الانتخابات وصناديق الانتخابات .. بعيدا عن العنف والملوتوف والفوضى..
ولكن هؤلاء الناس غير جادين أبدا فى تحقيق الديمقراطية.. ولا يقبلون أبدا بشرعية صناديق الانتخابات .. وهم يائسون من تأييد الجماهير لهم ولذلك تراهم منخرطين طول الوقت فى المؤامرات والمساخر.. فى مسلسل هزلي متعدِّد الحلقات.. لا يقلُّ سماجةً ولا سفاهةً عن برنامج المهرّج المتأمْرِك باسم يوسف.. ولكن يلعب دور المهرّج فيه شخصيات من أمثال سامح عاشور والزند والبرادعى وموسى وصبَّاحى.. ورفعت السعيد.. وجوقة من أتباعهم فى السياسة والإعلام.. جميعهم بلا استثناء قد تشرَّب روح "تأبط شرا" الذى لا يمكن أن يأتى بخير لأمه المنكوبة به: فليس فى جعبة "تأبَّط شرًّا" إلا الغول والثعابين.. وخراب مصر.. [email protected]