كما هو الحال في كل انتخابات العالم هناك خاسر ورابح ومستفيد ومتضرر ولكن الوضع هنا اختلف وأصبح مشروع النصف هزائم والنصف الرابح ذراعا تصفع الانقلاب في مصر ورجاله الذين احتفوا بما أسموه هزيمة حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان، فقد وصف مراقبون نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الاخيرة بأنها "نصف انتصار ونصف هزيمة" لحزب رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، بعدما فشل الحزب في الحصول على نسبة مقاعد تؤهله لتشكيل حكومة وحده (268 مقعدا) وفشل في الحصول على نسبة أصوات تؤهله لتعديل الدستور (368)، وتغيير النظام البرلماني إلى رئاسي يزيد من سلطات أردوغان على حساب رئيس الوزراء. إلا أنهم قالوا إن حزب أردوغان ظل الفائز الأول للمرة الرابعة منذ انتخابات 2004، متفوقا على كل الأحزاب، كما أن "فرمة" الحزب ورغبة أردوغان في تغيير الحكم لنظام رئاسي لا برلماني على غرار فرنسا، ربما تكون مفيدة للتجربة الديمقراطية التركية، فضلا عن أن فوز الحزب الكردي على حساب حزب أردوغان، هو مكسب على المدى البعيد لتركيا وانخراط الاكراد في الحياة السياسية السلمية بدلا من الحروب التي استمرت بين الدولة التركية وبينهم وأنهاها حزب اردوغان بنجاح. وحصل حزب العدالة والتنمية على 40,8 بالمئة من الأصوات، تقل عما حصل عليه في انتخابات 2011، حين حقق الحزب 49.83% من الأصوات، فيما حاز حزب الشعب الجمهوري (العلماني) على 25,1 بالمئة، وحزب الحركة القومية على 16,4 بالمئة، وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) على 12,9 بالمئة. وفقا لهذه النتائج حصل حزب العدالة والتنمية على 258 مقعدا في البرلمان، وحزب الشعب الجمهوري على 132 مقعدا، وحزب الحركة القومية على 80 مقعدا، وحزب الشعوب الديمقراطي على 80 مقعدا. ويرى مراقبون أن عملية الشيطنة التي تعرض لها أردوغان، وحزب العدالة والتنمية على كل صعيد، مع تصاعد مسألة الهويات، تجعل النتيجة جيدة بالنسبة للحزب نسبيا رغم أن حصته من المقاعد تقلصت حوالي 9%.. وقد وصف خبراء ومحللون النتائج التي حققها حزب العدالة والتنمية التركي والذي يتزعمه رجب طيب أردوغان في البرلمان بأنها فوز ولكن بطعم الهزيمة لأن الحزب الحاكم خرج من دائرة الحكم منفردا لأول مرة، بعد تراجع نسبة ما حققه من نتائج في الانتخابات البرلمانية. وهو ما يعني أن حزب العدالة والتنمية التركي أصبح أمام خيارات صعبة تتراوح بين تشكيل حكومة أقلية ستكون تحت رحمة بقية الأحزاب، أو تشكيل ائتلاف مع أحزاب أخرى (الحركة القومية أو حزب الشعوب الديمقراطية الكردي)، وهو ما سوف يترتب عليه دفع أثمان سياسية باهظة وتقييد سياسة تركيا الخارجية، ما قد يعني دخول تركيا في مرحلة عدم استقرار سياسي، سينعكس على أدائها خارجيًّا في ملفات أساسية مثل سوريا. وأطاحت النتائج أيضا بأحلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتعلقة بوضع دستور جديد يحول تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. ويرغب أردوغان الذي تولى رئاسة الوزراء من 2003 حتى 2014 قبل أن يصبح رئيسا، في أن يصبح الشخص الأكثر نفوذا في تركيا ويعزز سلطات الرئاسة التي كانت منصبا شرفيا حتى وصوله إليها إلا أن المعارضين يخشون أن يكون ذلك بداية عهد حكم الرجل الواحد، إذ من المرجح أن يسعى أردوغان إلى انتخابه مرة ثانية ليبقى في السلطة حتى 2024. وأغضب أردوغان العلمانيين في بلاده مرة أخرى حين أعاد ترديد شعر قاله وهو عمدة لأسطنبول وتسبب في سجنه عبر الحكام العسكريين، وفيه يقول: "مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمصلون جنودنا.. هذا الجيش المقدس يحرس ديننا". وبهذه النتائج وهذا الفور تمكن حزب "العدالة والتنمية"، من الفوز بالمرتبة الأولى للمرة الرابعة على التوالي، في الانتخابات العامة بتركيا؛ حيث فاز منذ تأسيسه في 14 أغسطس 2001 في 4 انتخابات عامة، في 2002، و2007، و2011، فضلا عن انتخابات العام الجاري 2015، كما فاز أيضا في ثلاثة انتخابات محلية، في أعوام 2004، و2009، و2014، إلى جانب فوزه بانتخابات الرئاسة التركية، العام الماضي. حكومة ائتلافية مع عدم حصول حزب العدالة والتنمية على عدد غير كاف من الأصوات للحصول على الأغلبية في البرلمان وهي 276 مقعدا، لن يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده، وبالتالي فإن الحكومة التركية التالية ستكون حكومة ائتلافية بين أحزاب أخرى معه. وبعدما أعلن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي صلاح الدين ديميرطاش أن حزبه لن يشكل ائتلافا حكوميا مع حزب العدالة والتنمية، فإن هذا يترك المجال مفتوحا أمام سيناريوهات ثلاث لتشكيل الحكومة التركية المقبلة. (السيناريو الأول): ائتلاف 258 عضوا لحزب العدالة والتنمية مع 132 عضوا من حزب الشعب الجمهوري، بمجموع 390 عضوًا. (السيناريو الثاني): ائتلاف 258 عضوا من حزب العدالة والتنمية مع 81 عضوا من حزب الحركة القومية، بمجموع 339 عضوا. (السيناريو الثالث): ائتلاف 132 عضوا من حزب الشعب الجمهوري مع 81 عضوا من حزب الحركة القومية و79 عضوا من حزب الشعوب الديمقراطي، في ائتلاف يضم 292 عضوا. وقد رجح محللون (سيناريو رابع) هو حكومة ائتلافية بين حزب أردوغان وحزب الأكراد، يجري بموجبها الاتفاق على تعديل للدستور يقوّي موقع أردوغان، ويعترف بالمقابل بحقوق أكبر للأكراد. ولكن قول صلاح الدين ديمرطاش، رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي،إن "الانتخابات البرلمانية وضعت حدًا لمحاولات انتقال تركيا للنظام الرئاسي"، ربما يشير لرفضه تعديل الدستور للوصول إلى نظام رئاسي. وفي حال فشل الأحزاب التركية في تشكيل حكومة ائتلافية، يمنح القانون التركي للرئيس رجب طيب أردوغان حق الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة بعد 45 يوم من إعلان النتائج. أسباب تراجع حزب أوردغان ويرى مراقبون أن شعبية حزب العدالة والتنمية انخفضت لعدة أسباب، أهمها ابتعاد نسبة من الأكراد عن حزب العدالة والتنمية والانضمام للحزب الكردي والتصويت لصالح حزبهم الكردي، الشعوب الديمقراطية، خاصة بعد أحداث كوباني عين العرب بشمالي سوريا. وقالوا إن من الأسباب أيضا غياب كاريزما أردوغان، حيث تساءل المحلل السياسي محمد المختار الشنقيطي:"هل تراجع حزب العدالة والتنمية راجع إلى غياب كاريزما أردوغان، أم راجع إلى حضوره الطاغي الذي أصرّ على البقاء في السلطة وتغيير الدستور؟"، وأضاف: "يبدو لي أن السبب هو غياب أردوغان، لأن الضربة القاضية للحزب كانت في مدينة أردوغان أسطنبول، التي تراجع دعمها للحزب بشكل لافت". ولكنه رجح أيضا أن "يكون انتقال الأكراد من حزب أردوغان إلى الحزب الكردي أضر بحزب أردوغان، إذ توجد كتلة بشرية كردية في أسطنبول أكثر منها في أي مدينة أخرى"، ومع هذا اعتبر "صعود الحزب الكردي قد يضر أردوغان على المدى القريب، لكنه مفيد لتركيا على المدى البعيد، إذ لا مستقبل لتركيا دون اندماج الأكراد ضمن نسيجها". ويرى مراقبون أن الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات كان حزب الشعب الجمهوري العلماني بزعامة كمال كليجدار أوغلو، أما الفائز الأكبر فكان حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، الذي يدخل البرلمان للمرة الأولى كحزب سياسي وليس كأكراد مستقلين، ثم يليه حزب الحركة القومية اليميني المتشدد. وانتقلت أصوات حزب الشعب الجمهوري في المدن الكبري، وخاصة أنقرةوإسطنبول وإزمير، إلى حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، أو بمعنى آخر انتقلت أصوات الكماليين من الحزب الكمالي إلى الحزب الكردي، ربما لإنجاحه وبالتالي التخلص من حزب العدالة والتنمية ووضع حد لسقف طموحاته. وإلى جانب الدوافع السياسية لهذا التصويت العقابي، كان لضعف المؤشرات الاقتصادية دور في انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية؛ حيث أصر رئيس الجمهورية أردوغان على تخفيض معدل الفائدة، وعارض خطوات البنك المركزي التركي، ما تسبب في ارتفاع أسعار العملة الصعبة مقابل الليرة التركية بشكل غير مسبوق، فخلال فترة أحداث متنزه 'جيزي بارك' بإسطنبول ارتفعت قيمتا اليورو والدولار بنسبة 3%، فيما ارتفعت قيمة العملتين بسبب التوتر بين أردوغان ومحافظ البنك المركزي بنسبة 7% مقابل الليرة. وقد يضاف إلى كل هذه المشكلات أزمة استقالة رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان وترشيح اسمه عن حزب العدالة والتنمية، وهو ما عارضه أردوغان، فعاد فيدان إلى منصبه الذي استقال منه بعد أيام في خطوة كان لها مردود سلبي كبير أثر بشكل واضح علي ناخبي الحزب الحاكم. تأثير النتائج على مصر برغم ابتهاج وسائل إعلام مصرية وإماراتية لما أسموه "ذل" وهزيمة أردوغان، وتوقع خبراء مصريون أن تتقلص سلطة الحزب ونفوذها وينطفئ وهج أردوغان، إلا أن خبراء يرون أن النتائج التي حققها حزب اردوغان لا تزال تضعه في المقدمة وسيكون له حق تشكيل حكومة مع حزب واحد آخر ما يعني استمرار نفس السياسيات المعادية لمصر والسيسي والانقلاب. وفي مصر، تناولت صحيفة "الأهرام" الأحداث التركية تحت عنوان "صفعة جديدة للسلطان: الأتراك يبددون حلم أردوغان ويقولون بوضوح: لا للنظام الرئاسي" مضيفة: "في صفعة جديدة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تحول دون تحقيق طموحاته الرامية لتغيير النظام البرلماني إلى رئاسي، فشل حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال الانتخابات البرلمانية في الفوز بالأغلبية المطلقة". ويقول محللون إنه حتى ولو فشل حزب أردوغان في تشكيل حكومة فلن تتمكن الأحزاب العلمانية الأخرى من تشكيل حكومة مستقرة ولو شكلتها لتواجه بمعارضة أغلبية حزب العدالة في البرلمان، ما يعني اللجوء في النهاية لانتخابات برلمانية مبكرة جديدة ربما يدرك فيها المواطن التركي أن تركيا ستذهب للمجهول وعدم الاستقرار لو لم يعطوا نسبة أكبر لأروغان وحزب كي يشكل حكومة مستقرة وحده. ويرى خبراء أن عدم فوز حزب أردوغان بالأغلبية وتشكيله الحكومة وحده، سوف يكون له تداعيات إقليمية أخرى في ظل التضارب المحتمل في السياسة الخارجية بين حزب العدالة وأي حزب آخر يشاركه الحكومة، ما قد يؤثر على المشهد الإقليمي والدور التركي في سوريا والمنطقة. وكانت صحيفة "تليجراف" البريطانية توقعت 6 يونية الجاري، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيواجه أول انتكاسة سياسية له بعد عقد من الهيمنة على سياسات البلاد؛ حيث تعتمد خططه لكسب المزيد من الصلاحيات لنفسه على الانتخابات البرلمانية التي خسر حزب أردوغان أغلبيته السابقة فيها، وهو ما يوقف مساعيه للحصول على المزيد من السلطة.