أطلقت الانتخابات العامّة البريطانيّة، قبل أيّام قليلة، عدداً من العناوين الصارخة: الفوز "المفاجئ" لحزب المحافظين، أخطاء مؤسّسات قياس الرأي العامّ، احتمالات انفصال اسكتلندا، مستقبل العلاقات البريطانيّة بأوروبا، القيادات التي سترسو عليها الأحزاب الراسبة، لا سيّما منها حزب العمّال، بعد استقالة قادتها... لكنّ خبراً آخر أقلّ أهميّة دسّ نفسه بين الأخبار المتصدّرة. إنّه فشل جورج غالاوي في الحصول على مقعد نيابيّ عن مدينة برادفورد. ويعود تفسير ذلك إلى شخصيّة غالاوي بوصفها تعبيراً عن نمط وسلوك أكثر كثيراً ممّا هي تعبير عن شخصه الكريم. فابن ال61 عاماً الذي بدأ في شبابه عضواً ناشطاً ومتحمّساً في حزب العمّال، ما لبث الحزب أن ضاق على طموحاته السياسيّة منها والماليّة. فمنذ أواخر الثمانينات، بدأ تتسرّب أخبار متوالية عن "فضائح" تتّصل به يمتدّ نطاقها من جزر اليونان إلى الصناديق الخيريّة في بريطانيا. هكذا، مثلاً، طرحت اللجنة التنفيذيّة المحلّيّة لحزب العمّال، في 1988، مسألة التصويت على نزع الثقة به ولم يحالفها الحظّ. فالرجل لا تعوزه المهارة وبراعات التحدّث والخطابة، شأنه في ذلك شأن كثيرين من الشعبويّين والديماغوجيّين. على أن التوتّر بين غالاوي وحزبه استمرّ حتّى 2003 حين طُرد بسبب موقفه من حرب العراق. فهو منذ 1994 قصد بغداد وألقى في حضرة صدّام حسين خطبة مجّد فيها "قوّته وشجاعته". ومع الحرب استهدف قائدَه الحزبيّ توني بلير بانتقادات بعضها صائب ومُحقّ. لكنْ ظهر من يقول إنّه يتقاضى مبلغاً شهريّاً مقطوعاً من حاكم العراق. وبمبلغ كهذا أو من دونه، أنشأ غالاوي حزباً قضيّته الأولى مناهضة الحرب، أسماه "الاحترام"، إحدى التسميات الجذّابة للقادة الشعبويّين. ومن دعمِه صدّام حسين إلى دعمه بشّار الأسد في المفاصل الأساسيّة، صار غالاوي النجم البريطانيّ الناطق بلسان الديكتاتوريّات العربيّة، أي باللغة الديماغوجيّة: الناطق بلسان الجماهير العربيّة التي تسحقها الولايات المتّحدة ودول الغرب. وفي هذه الغضون أعدّ وقدّم برنامجاً تلفزيونيّاً على قناة "الجزيرة"، حيث اضطلع بدور الواعظ والمرشد الذي يعلّم العرب كيف يسعون وراء مصالحهم. لكنْ وكما الحال دائماً بالنسبة إلى غالاوي، كانت تكثر الإشارات التي تغمز من مصالحه هو، فيما يتمّ تداول أرقام كثيرة الأصفار يقال إنّه يتقاضاها من "العرب". وبسيجاره وقبّعته ونياشينه، وميله إلى الاستعراض الدائم وإلى الحملات والضجيج، فضلاً عن القضايا التي لا يُعرف أين ينتهي الشخصيّ فيها وأين يبدأ السياسيّ والمبدئيّ، تحوّل غالاوي نجماً في مؤتمرات الدعم "لقضايا التحرّر العربيّ"! وهي سيرة لا تتطلّب الكثير من الذكاء لفهم بواعثها، أو لفهم دلالاتها. إلاّ أنّ تتويجها بالفشل يبعث على ارتياح وثقة بأنّ الكذب لا يمضي إلى ما لا نهاية في مجتمعات تراقب وتحاسب. لقد أعلن جورج غالاوي حين ظهرت نتائج الانتخابات، أنّه سيتوجّه "إلى تنظيم حملتي الجديدة". أغلب الظنّ أنّه سيتوجّه إلى لا مكان، اللهمّ إلاّ إذا كان يقصد غرفة ملحقة بالقصر الرئاسيّ في دمشق.