أقول إني موقفي الفلسفي من العالم الذي نعيشه يتمثل بكل وضوح في الأخذ من منجزات العصر ولكن مع الحفاظ الثابت علي أصولنا وتقاليدنا ، إن حداثة مقطوعة الصلة بالتقاليد والجذور هي حداثة عبثية تنتهي بالإنسان وبالحضارة الإنسانية وبالمستقبل ذاته إلي الحيرة والشك والعجز وفقدان المعني . وحين توفيت والدتي ( يرحمها الله ) منذ يومين ، بعثت وفاتها في نفسي معني الموت ( الحقيقة الأزلية الثابتة ) في كل الأديان والحضارات والفلسفات ، وقفت علي المقبرة ، ونظرت إلي بابها الضيق المحسوب بدقة علي قدر جسم الإنسان ، ومن حول المقبرة مقابر منتشرة صامتة يخيم عليها الجلال والسكون .
وبقدر تجاور تخوم الامتداد المديني لمركز شربين – محافظة الدقهلية - الذي دفنت في مقابرها الوالدة إلي جوار أقاربها من العائلة ، كنت أتأمل أن الصوت الساكن المهيب للمقابر هو أبقي وأقوي ويمتد مع حقيقة سرمدية لا يمكن أن تقاوم وهي كدح الإنسان إلي ربه ووقوفه أمامه في النهاية ليحاسبه " يأيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه " .
الموت والآخرة والحساب والقبر والسؤال والعذاب هي غيبيات إيمانية نؤمن بها وتبعث في نفوسنا وعياً فطرياً وحقيقيا كمسلمين أن الإنسان مهما طال بقاؤه في هذه الحياة فإنه لا بد ميت ، وأن هذه الدنيا مهما كانت عذوبتها وغرورها فهي في النهاية زائلة ، ومن ثم فإن الدار الآخرة هي دار الحياة الحقيقية " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " .
تبدو لي المعاصرة – أي أن يعيش الإنسان عصره ويكافح بأدواته وأسبابه وينافس بمنطقه بدون وعي حقيقي أن ذلك كله محكوم بقواعد وسنن ونظام إلهي وكوني وضعه خالق الكون ، ومن ثم فالحداثة التي تتنصل من هذه السنن والنظم هي حداثة عدمية ودنيوية ، هي نفس ما كان يقوله الدنيويون القدامي " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " .
منذ فترة طويلة لم أذهب لقريتي ، وكنت أذهب إلي هناك بسرعة أتسلل بعد سويعات عائدا ، حتي لا نتعرض لأعباء الانقطاع عن إيقاع حياتنا الحداثية القاسية والمتوحشة في المدينة .
لكن هذه المرة التي قضيت فيها يوماً كاملا وطويلا مع أهل قريتي ديمشلت ، ومع شباب وأبناء عائلتي ( عائلة أبو حبيب ) اكتشفت أهمية وعمق الاتصال بجذورنا والتواصل مع أقاربنا والمناطق التي شهدت نشأتنا وذكرياتنا الأولي .
تقبلنا العزاء وظللت واقفاً وإلي جواري أقاربي من العائلة نصافح كل من يأتي ليعزينا ، ومن يأتي هم جميع أهل القرية الراشدين الكبار ، فواجب العزاء هو تقليد أصيل وجميل لا يزال قويا وراسخاً في القري المصرية قدر رسوخ حقيقة الموت ذاتها في الوجدان الفطري المصري .
كنت أشعر بتواصل عميق مع الأيدي التي أصافحها ، وهي أيدي كلها يحبها الله ورسوله ، فهي خشنة من آثار العمل في الحقول ، وكنت أتصفح الوجوه والأجساد والملابس فأجد عالماً من الرضي الإيماني رغم قسوة ووحشية الظرف الحياتي الذي يعيشه هؤلاء البسطاء والمستضعفين من عموم أقاربنا في الريف .
قرية ديمشلت هي التي شهدت مدارجي الأولي ، ففيها تعلمت أول حرف للقراء والكتابة ، وفيها تعلمت الحساب والأرقام ، وفيها كانت أحلامي الأولي لنهضة بلادنا ، وهذه القرية هي التي شهدت أيضاً أول مسالكي للولوج إلي الإحياء الإسلامي ففيها كنت أول من بذر البذرة الأولي للدعوة إلي السنة والتمسك ومعرفة أحكام جديدة في الفقه والشريعة مثل ( قصر الصلاة للمسافرين والاعتكاف للصائمين ... وغيرها كثير ) وكلها كانت تعبر عن جدل اجتماعي وديني صراعي بين التقليد والتجديد والإحياء .
يعرف المتابعون للتحولات الاجتماعية في الغرب أن هناك دعوة لإحياء التقليدية والعودة إلي الجذور لأن الحداثة هي سير إلي المجهول ، ومن هنا فالتقاليد التي تقاوم في الريف يجب علينا كمثقفين أن نعززها ونحافظ عليها ونتواصل معها ليس هذا فقط بل يجب علينا أن نؤسس حركات اجتماعية للحفاظ علي الريف وتقاليده ونوقف زحف المدينة وتقاليدها وأخلاقها علي الريف .
حدث الموت فيه جانب للحياة ، حياة الروح والتأمل ووقفة الإنسان مع الذات ، وهذه المرة بالنسبة لي كانت حياة معني العودة إلي الجذور والتمسك بها والتواصل مع أسمي العلاقات القرابية ، واكتشاف معني البساطة والطيبة والكرم والحب الحقيقي للأقارب والشعور بالفخر بهم ، قرانا وأقاربنا هناك وقيمنا التي تقاوم بحاجة منا إلي أن تبقي حية راسخة كحقيقة الموت فكلاهما وجهان لمعني واحد الموت والحياة " تبارك الذي بيده الملك وهو علي كل شئ قدير ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " .