إن للانقلاب لغة وخطابا، ومن المهم قراءة الانقلاب في لحن قوله وسيماه (فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). من ذلك أن هذه الدولة القمعية والمنظومة الانقلابية تعادي من لغتنا جذرا لغويا أساسيا، هو الجذر (ج م ع) بكافة مشتقاته ومعاني هذه المشتقات وتجلياتها في الواقع والحياة. ومن عجيب الأمر والإشارات المعبرة أن هذا الجذر يوافق الحروف المعبرة عن (جمهورية مصر العربية) (ج.م.ع). لقد قامت الرؤية الإسلامية والحياة المصرية على مفردات شبكة (الجمع)، بينما يسعى الانقلاب اليوم لكي يمكن لسلطانه على تقطيع هذه الشبكة وتمزيق حلقاتها، وأهمها: الجامع والجمعة: وهما رأس أمر الاجتماع في الرؤية الإسلامية، ففيهما صلاة الجماعة، وجمع الكلمة وصف الصفوف وسد الخلل، في بيوت الله تعالى لا بيوت الناس، لا يمنع داخلها، ولا يفزع القائم فيها، ولا يطرد منها أحد.. فهي بيوت الله لا بيوت الدولة، لكن الانقلاب لا يريد هذا المسجد الجامع، ولا يريد الجمعة الجامعة، إلا أن تكون في قبضته وتحت أسره وسلطانه، ووفق أمره ودينه هو، وفهمه هو للإسلام، ومن لا يروق له ذلك فلا مكان له في (بيوت الله). تبني الناس الجوامع والمساجد، وتتعلم دينها وتعلمه، والأصل أن السلطان لا دخل له في ذلك إلا المعاونة، وأنه لا سلطان له على المساجد الأهلية (العمومية)، كما يقولها بصريح العبارة الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية، وأن الناس هي التي تختار إمامها للصلاة، والهيئة العلمية المجتمعية هي التي تجيز الجالس للدرس أو التعليم أو الفتيا، لا الدولة ولا صولجانها،.. لكن فقهاء سلطان الزمان يأبون إلا أن يخترعوا لنا فقها انقلابيا يقرر في "غير المختار" "اللاجمعة " تأميم الجامع والجماعة والجمعة. حتى التراويح ممنوع فيها الترويح، فلا راحة في الصلاة بعد اليوم؛ فالاستوب ووتش بيد العسكري الأوقافي، الذي لم يسمع (أرحنا بها يا بلال)، ولا (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وأن الطمأنينة ركن متكرر في الصلاة: حتى تطمئن قائما وراكعا وساجدا... أي دين هذا يا شلة الانقلاب؟ إن تأميم المساجد والجوامع والجمعات، وتأميم الشعائر والدعاء والتراويح، ومحاولة تدشين خطاب مفروض مرفوض في الدعوة إلى الله يتناسى أنه ليس لأحد من قدرة على غلق باب فتحه الله، ماذا يفعل هؤلاء سوى منازعة لله في خلقه مدعين أنهم من عبيدكم ويقعون في ملككم وحوزتكم، فتدعون أنهم مواطنيكم تفعلون بهم ما شئتم وما أردتم، الدعوة والدعاء هي لله، سندعوا لله ما أردنا وما استطعنا، الدعوة أمر لله، والدعاء أمر بيننا وبين الله، سنظل ندعو على الظالمين، ونؤكد أن المساجد لله، وأن الدعاء هو من صميم علاقة العبد بالله، وأن الصلاة على النبي والدعوة إلى ذلك من شأن المسلم، "أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى" وفي ختام هذه الأيات "كلا لا تعطه واسجد واقترب"، إن هؤلاء الذين يخترعون الفقه المقلوب قد طمست فيه البصيرة والقلوب. والجامعة: قتلوا أبناءها، وسحلوا بناتها، واعتقلوا وفصلوا أساتذتها وطالباتها وطلابها، وحققوا معهم وضيقوا عليهم وشهروا بهم، ودنسوا بالبيادات والدبابات حرمها، واقتحموا قاعاتها، وأعادوا إليها حابسيها في صورة حارسيها، وحكموا فيها أحط من فيها، وسلطوا سفهاءها على علمائها، وجمدوا نشاطها، وعطلوا طاقاتها، ودمروا روحها: روح الفكر السارية، وروح الحوارات الجارية، فلا ندوة ولا مؤتمرا ولا حلقة نقاش، ولا ملتقيات علم وبحث، إلا في كنف الرقيب الرهيب، الحاكم بأمر الانقلاب. وجعلوا أهل الجامعة شيعا، شيعة مرضيا عنهم وآخرين مغضوبا عليهم: يقتل أبناءهم ويستحيي بناتهم، ويشتت شملهم. وبعد كل هذا يقولون لمن تبقى من أساتذتها وأكثرهم الصامتون عن جرائم الانقلاب وجرائره: لستم أهلا لاختيار رؤسائكم وقياداتكم، ولو بلغتم من العلم كل مبلغ، ومن العمر أرذله، فأنتم – كسائر الشعب الذي شاركتمونا في احتقاره واحتكار الحديث باسمه - لا تعرفون مصلحتكم ولا مصلحة الوطن، والصندوق ليس كل شيء، والأمن القومي قضيتنا، فاخسؤوا فيها ولا تكلمونِ. الجامعة مؤسسة من مؤسسات الدولة ولا علاقة لها بالمجتمع، ويجب ألا تكون مكانا للاجتماعات أو التجمعات الطلابية أو غيرها، لا نشاط سياسي في السياسة فكيف نسمح به في الجامعة. والجماعة: لا يعرفون إلا جماعة واحدة؛ لأجل مشروع إقصائها الاستبدادي، ومشروع استئصالها الوحشي، يهدرون كل معنى للجماعة. فلا جماعة وطنية في مصر بعد اليوم، ولا جماعة سياسية تؤسس على منوالها الدولة المصرية بعد اليوم، ولا جماعة حضارية تضم مصر وعروبتها وإسلامها وأفريقيتها بعد اليوم. لا جماعة إلا على أرضية الانقلاب وتحت مظلته. ما عدا هذا فالجماعة إرهابية أو خارجة عن القانون. إنه قانون الانقلاب وانقلاب القانون في جملة واحدة. الدين جماعة، والدنيا جماعة، ويد الله مع الجماعة، والشيطان من الفرد أقرب ومن الجماعة أبعد. الجماعة الحق، وما وافق الحق ولو كنت وحدك. كيف لفطرة إنسانية سوية أن تستريب من كلمة (جماعة) حتى ما عادت تقدر أن تضعها في جملة مفيدة. الإعلام الضلالي والداخلية الإرهابية ومثقفو السلطان، خوفوا الناس من "الجماعة"، وقصورها في أذهانهم على (جماعات إسلامية) استطاعوا تشويه صورتها، وشيطنتها عند عامة الناس. والجمعية: لا جمعيات بعد اليوم، إلا جمعيات الدولة، وبإدارات مندوبي السلطة، ولأغراض السلطان لا ضرورات الإنسان. اجتاح الانقلاب الجمعية فكرة وحقيقة، ضمن مخطط هجومي لإعادة تشكيل المجتمع المدني والأهلي في مصر. فجمعيات الدعوة، والبر والخدمة، والإغاثة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، وحقوق المستهلك، وجمعيات تنمية المجتمع الأهلي، والجمعيات التوعوية والتنموية.. كل هذه يجب أن تمحى ثم إذا أراد الانقلاب أن يعيدها فعلى مقاييسه وضمن حدوده وقيوده. لماذا؟ لأنها لا تنظيمات ولا تكوينات مسموحا بها في مصر بعد اليوم إلا التنظيم العسكري: الجيش، والتنظيمات الانقلابية التي يحتفظون لها باسمها القديم: مؤسسات الدولة. ولا تكون الدولة دولة مؤسسات حتى يكون المجتمع مجمع الجمعيات. ولا يكون الحاكم فردا منفردا متفردا مستفردا بالشعب، حتى يكون الشعب أفرادا أفراطا منفرطين متفرقين. والمجموعات: كل خمسة يقفون معا فهي وقفة احتجاجية، أو يمشون معا فهو موكب ومظاهرة، أو يتكلمون معا ولو على الفيس بوك وتويتر فهم مجموعة يجب أن توضع تحت عين الرقيب الرهيب.. لا مجموعات ولا حركات ولا مبادرات ولا حملات ولا مشروعات ولا أفكارا ولا اختراعات.. الفصل لا الوصل، التفكيك لا التجميع. الأحزاب في مرمى قصف الحل، والمجموعات مثل 6 أبريل أو ما شابه لا مجموعات بعد اليوم. على الشباب أن ينظموا علاقاتهم وأعمالهم وأنشطتهم داخل الدولة وبرعايتها، روح التخويف من التجمع الشبابي، والمجموعات الشبابية المتنوعة، واحدة من مقاصد الانقلاب، سليل الاستعمار وسياساته: فرق تسد، وسد كل مداخل الجامعية تنقد لك الدولة وناسها. ولكن هيهات، إن من المجموعات ما تفرضه سنن الاجتماع الإنساني وطبائع العمران البشري، وإن الانقلاب يناطح صخرا لا يلين لناطح ، لأن ذلك ضد سنن الاجتماع وانفساحها. والمجتمع والاجتماع، والتجمع ، الأصل أن الدولة ثمرة البناء والبنيان المجتمعي. في الأصل كانت المدينة اجتماعا بشريا طبيعيا، ثم برزت الحاجة لهيئة تقوم على وظائف وأدوار لخدمة هذا المجتمع، وحفظ ذلك الاجتماع، فأفرزت المدينة حكومتها وقيل: لتكن "دولة" فكانت دولة. هذا هو خط الاستقامة والاعتدال. أما خط الانقلاب والاعوجاج، فيقص علينا قصة منقلبة ومفتراة: في البدء كانت الدولة ومعها ولد استبدادها واستئسادها وغطرستها وهي أنشأت مجتمعا خادما خانعا لها، بل عبدا لأغراضها وأهوائها. ومن ثم فيمكن ألا يكون في عرف الانقلاب "مجتمع"، بل شراذم وشظايا وأشلاء متناثرة، وأفراد يقف الواحد منهم أما "هول" الدولة و"هالتها" لا يستطيع غير أن يركع ويسمع ويطيع ويرضى بما قسم المستبد المتأله له. إن ما يفعله الانقلاب في مصر، امتدادا لعهود الاستبداد والفساد والتبعية، إنما هو تفكيك أواصر المجتمع وأوصاله، وتقطيع في شبكة العلاقات الاجتماعية بقوارض حرب الكراهية وصناعة الفرقة المتوحشة. إن رضا البعض بسفك وإهدار دم البعض الآخر، وتزيين جرائم الانقلاب، لهي الداء العضال الذي أصاب قطاعا موبوءا من الشعب المصري، طرب لغنوة تعلن أن مصر صارت شعبين، وأن المجتمع صار مجتمعين. إن آلة التفتيت والتشتيت والتفريق والتمزيق لن تكف حتى تنهي قصة الوطن، وتقضي على أقدم مجتمع عرفه التاريخ المكتوب.لابد من الحفاظ على ثقافة الاجتماع والتجمع، وألا نرتد على أعقابنا شللا. فلا مجتمع بغير تجمع واجتماع: تجمع العاملين، واجتماع الكلمة والعمل. والمجموع والجميع والإجماع: ومن المجتمع يظهر "المجموع": المشهد الغالب بجمعيته وجماعيته، الذي يظلل ما بيننا من تنوعات وتلونات، ولا يجعل منها شقوقا وتصدعات. المجموع هو الحال الغالب على المجتمع إذا صح اجتماعه، وتعافت جماعيته. والمجتمع الذي لا يكون له مجموع لا يكون له محور ثابت يستند إليه، ويتكئ عليه. والمجموع غير الجميع. فالجميع هو العدد الكلي الذي لا يترك منه أحد، ولا يهمل منه أحد، وفيه يظهر الإجماع الذي لا يتخلف عنه أحد، ولا يخالف فيه أحد. وما لم يكن فينا إجماع وتوافق ولو على قدر وحد أدنى مشترك، فإننا في خطر يجب الحذر منه ، لكن المجموع أوسع مكنة، وأكثر وقوعا، غير أن الانقلاب بحاسته الممزقة المفرقة، يحارب كل هذا، ويفتري على الجميع والمجموع، ويدعي الإجماع عليه، وما في مصر إجماع إلا على سوئه وشره، وعلى نهايته القريبة والنهائية. والجموع: لا يخشى الانقلاب شيئا مثلما يخشى الجموع: الحشود، التي يوما ما ثارت فأسقطت رأسه القديم، وهزت كيانه السقيم، وكشفت جرمه الأثيم. وما وضعوا قانون الانقلاب ضمن الانقلاب القانوني إلا ليكسروا قانون الجموع. وما حملتهم على التيار الإسلامي قتلا واعتقالا ومطاردة واستئصالا إلا لأنه تيار الجموع، وما حسد العلمانيون في الإسلاميين إلا قدرتهم على استحضار الجموع في الميادين المختلفة. واليوم ينادي الانقلاب الجموع أن تجوع ليشبع، وتفتقر ليغنى، وتعاني ليسعد، وتصاب ليسلم، ولتغني له، وتتبرع له، وتتجرع السم له، وتعمل على خطوته العسكرية؛ لأنه لا يراها جموعا، بل قطعان ماشية يمشيها كيف شاء. لقد ادعى أن الجموع هي من أتت به، وموه على خطته في الدفع ببعضها ثم تصويرها على أنها جموع الجميع والمجموع والإجماع، التي أبهرت العالم، ثم صرفها وأغلق باب الميدان وراءها، يستدعيها في المناسبات التي يحتاج إليها فيها، فإن أبت، كما صفعته في الاستفتاء وغيره، ادعى على غيابها الحضور، وصور قلتها في صورة الكثرة الكاثرة ، وحين لا يحتاج إليها فالاجتماع محظور، والميادين محصورة ممنوعة ، وحشود واحتفالات مصنوعة. والجامعية والجماعية: وهذه هي خلاصة الأمر: ينفي الانقلاب –أو يحاول أن ينفي- الجامعية والجماعية فكرة وقيمة ومفهوما وحقيقة في حياتنا نحن المصريين. فليس ثمة بيننا جامعة نرى به جامعيتنا، ونؤمن على أساس منه بأننا "جمع، ومجتمع، وجميعا". وليس هناك ما يجمعنا، ولا حتى يجمع بعضنا، فلا معنى لما يسمى بالجماعي والجماعية: ليس ثمة عمل جماعي، ولا فكر جماعي، ولا نشاط جماعي، ولا كيان جماعي. الجامع الوحيد المقبول في مصر اليوم: الرضا بالانقلاب والتسبيح بحمده؛ لا الوطن، ولا المجتمع، ولا الشعب، ولا الإنسان، ولا الدين، ولا الشرعية، ولا القانون ودولة القانون، ولا الحق والحقوق، ولا الحرية والحريات الأساسية، ولا الدستور، ولا الثورة، ولا الشباب الذي ضحى ولا يزال يضحي ولأجله يجب أن يرسم المستقبل.. الملك المتوج، والبطانة المصفقة، والجوقة الراقصة، لا يرون جامعا في مصر إلا الإذعان والتطبيل وإلا فالتخوين والتفسيق والتكفير وتكدير المعايش والتهديد الدائم فوق الرءوس. ومن ثم فلا "استجماع لطاقات"، ولا "تجميع لجهود".. يتشظى كيان الوطن ، وتتمزق أشلاؤه تحت جنزير الدبابة، وتتناثر خطواته على طريق مظلم لا يُعلم إلى أين ينتهي.. فمع الانقلاب لا جمع ولا تجمع ولا اجتماع، .. ولا مجموع ولا جميع ولا إجماع، .. ولا جامع ولا جمعة ولا جماعة ولا جمعية .. ولا جامعية ولا جماعية ولا استجماع ،الانقلاب بإرهابه يطارد الجذر جمع ومشتقاته لأنه يعلم خطورة ذلك عليه، إن الانقلاب قرين الاستبداد بما يقوم به من استلاب للناس ما يشكل عماد حياتهم وصلاح معاشهم فيعلنون في سياساتهم وفي كل ممارساتهم بالقوانين الغادرة والسياسات الفاجرة كل ما من شأنه تطويق هذا الجذر من اللغة "جمع" ويخافون من كل كلمة تشتق منه ويرغمون الناس على العيش في عالم فرقة وانفراد، فتكون الفرقة في عرفه مزية، والجميع والجموع والجمع رزية، إن أحد أهداف الانقلاب أن يحدث انقلابا في الكلمات ومعانيها وما يترتب عليها من سلوكيات وفاعليات، وهم بذلك يوهمون الناس أن تجمعا واحدا هو الوحيد الذي يمكن أن يحل محل أي تجمعات أخرى يسيطر على كل ساحات الوطن والاجتماع ومجاله العام. الانقلاب وسياساته إلى زوال وذهاب.. فالانقلاب بإرهابه للجميع والمجتمع لا يملك تحطيم الاجتماع أو مطاردة الجميع وسيظل الجامع مصدر قلقه وخوفه وستحمل الجامعة رسالتها، وستظل الجماعة الوطنية تحافظ على تماسكها ولحمتها، سياسات الانقلاب سراب ، وظلمه واستبداده خراب.