جلست "حميدة" التى تخطو أولى خطواتها فى عامها الأول بعد الأربعين فى ركن منزوى بإحدى قاعات الجلسات بمجمع محاكم الأسرة بمصر الجديدة، بعيدا عن زحام العابسين وأعين المتطفلين، تنتظر أن يطلق الحاجب الخمسينى من حنجرته أمر مثولها أمام القاضى فى دعوى الحبس التى أقامتها ضد زوجها الملتحى بعد امتناعه عن سداد نفقة أطفاله الأربعة. كانت الزوجة الأربعينية ترتدى عباء سوداء مطرزة الأكمام ومزينة بنقوشات داكنة اللون أعلى منطقة الصدر، وتدارى خلف نقابها الحريرى وجه حفرت الدموع ممرا لها على وجنتيه المشربتين بصفرة الشقاء وعناء الركض وراء بضعة جنيهات تسد بها جوع اطفاله، وآثار جروح غائرة طبعتها أيادى رجلها الباطشة على ملامحها البائسة طوال 25 عاما عاشتها معه خائفة، صابرة - حسب روايتها- على اهانته لأنوثتها وزواجه بامرأتين غيرها بحجة غزو الترهلات لجسدها العليل، متجاهلة سعيه الدائم لإلباسها ثوب الشيطان أمام العالمين ومحتسبة أجرها عند الرحمن. وبنبرة تلمح فيها الشعور بالإنكسار والقهر أفصحت الزوجة الأربعينية "عما كتمته فى صدرها لسنوات طويلة:" تزوجت من ابن عمى منذ أكثر من 25 عاما بعد قصة حب جعلتنى أغض بصرى عن ضيق حاله ولا أبالى بقلة ماله الذى يجنيه من عمله كسائق باحدى الشركات. وأقبل أن أعيش فى بيت متهالك الأركان ومتساقط الدهان ولا يستر جنباته سوى قطع أثات بالية، فقد ظننت أن الرجل الذى لا يغيب عن لسانه ذكر الله، ويقضى ليله يتقرب إلى مولاه، ويؤم الناس فى مسجد حين الفقير سيصون عشرتى ويحفظ كرامتى ويطبق وصية النبى الكريم بالنساء، لكن يبدو أننى كنت بلهاء حينما انخدعت بالسبحة والمصحف اللذين لا يفارقانه كظله ولحيته الكثة التى تكاد تطال شعيراتها صدره وعلامة السجود التى تحتل جبينه وتدينه الزائف الذى يخفى وراءه قلب لا تعرف الرحمة طريقا له، ولسان يسب ويلعن، ويد باطشة تقطع بسياطها لحمك، ولاتهدأ حتى ترى الدماء تتفجر من فتحات جسدك ولاتقوى حتى على الإفراج عن صيحات ألمك". تتوقف الزوجة الأربعيينة عن سرد روايتها فجأة، وتتمتم بآيات من الذكر الحكيم كى تهدأ بها قسوة الذكريات المتدافعة على ذهنها، وبعد لحظات تكمل روايتها وهى تشير إلى خمس غرز مرصوصة بجوار عينيها الدامعتين:" ورغم سوء طباع زوجى واهانته المستمرة لى وإحداثه جروح وإصابات لاتزال آثارها مطبوعة على جسدى حتى الآن تحملت، خوفا من أن أوصم بعار لقب المطلقة وتجلدنى ألسنة الناس، ويشرد أطفالى. مرت الحياة معه كئيبة، وازدادت كآبه بعدما عرف المال طريقه إلى محفظته التى كانت دائما خاوية على عروشها، بعد مشاركته لاحد أصدقائه فى شراء ميكروباص وبات فى استطاعته أن يبتاع بدلا من السيارة اثنين وثلاثة، فأول مافعله زوجى المخلص بأوراقة البالية أنه أخذ يبحث عن بديل لى بحجة أن شكل جسمى قد تغير وأصابه الترهل ولم ممشوقا كما تعود عليه، أيعقل هذا أن يضحى رجل بمن عاشت معه على الحلوة والمرة لهذا السبب؟!، والأدهى من ذلك أنه تزوج بابنة عمى رغم توسلاتى بأن تتركه لاطفاله". تجتاح الزوجة الأربعينية موجة من الصمت والبكاء، وبعد نجاحها فى السيطرة على دموعها المنهمرة تقول :" لكن الله لايرضى بظلم عباده، فلم تستمر هذة الزيجة سوى أشهر معدودة، وخسر زوجى جزءا كبيرا من ماله الذى افترى به على، وظننت أنه بعد هذه الواقعة سيطرد فكرة الزواج للمرة الثانية من رأسه للأبد، لكنى كنت مخطئة. فلم تمر فترة طويلة حتى تزوج بشقيقة صديقه وشريكه، ومن جبروته أراد جلب عروسه لتعيش معى أنا وأولادى تحت سقف واحد، وحينما رفضت بدأ يختلق المشاكل ليخرجنى من الشقة بأى طريقة، وفى آخر شجار لنا ألقى على مسامعى يمين الطلاق ثلاثة مرات دفعة واحدة، وأدعى اننى بهذا محرمة عليه. تتابع الزوجة حكايتها فى أسى وألم :"استحلفته أن نسأل أهل الذكر فى هذة المسألة حفاظا على بيتنا من الانهيار، فقال لى :"أنتى عايزانا نعيش فى الحرام"، فخرجت من بيتى وأنا أجر أذيال الخيبة تاركة أطفالى الأربعة إلى والدهم، فليس معى ما أنفق به عليهم وأبى رجل عجوز لا حيلة له. لكن حينما علمت بأمر إرغامهم على المشاركة فى اعتصام " رابعة "، وتعرضهم للخطر يوم فضه، اعادتهم إلى حضنى قبل أن يلقى بهم فى نار مظاهرات الإخوان وتجمعاتهم ثانية، اتذكر يومها قال زوجى :" دول بيجاهدوا فى سبيل الله ولو كانوا ماتوا كانواهيبقوا شهداء"، لاأعلم كيف وأكبرهم لايتعدى عمره ال12 عاما"؟!. تعتدل الزوجة الأربعينية فى جلستها وتلملم ما تبقى من أحزانها وهى تختتم روايتها:"بعدها نسيت حبى لهذا الرجل، وتذكرت فقط محاولاته المضنية لإلباسى ثوب الشيطان أمام العالمين، واظهارى بمظهر المقصرة فى حق زوجها، وتدافعت أمام ناظرى مشاهد جسدى المنتهك على طاولة جلسات نميمة زوجى وأصدقائه وأسرار علاقتنا الحميمة التى اعتاد إفشائها لهم. وأقمت دعوى تمكين من شقة الزوجية باعتبارى حاضنة وصدر حكم لصالحى وانتقلت بالفعل أنا وأولادى إليها رغم حالتها المزرية، ثم رفعت قضية نفقة لصغارى بعدما كف والدهم عن الإنفاق عليهم وحينما امتنع عن السداد وتراكمت عليه المبالغ، أقمت ضده دعوى متجمد نفقة، وإما الدفع أو الحبس، كل ما أتمناه أن يعيننى الله على تربية صغارى وأن يهدى أبيهم ، وأن توضع آلية فعالة لتنفيذ أحكام النفقات".