وسط الصخب السياسي المصاحب لانتخابات الرئاسة وتوابع أحداث العباسية وما أثارته من ردود أفعال فضلا عن الأحكام القضائية المتعددة والمثيرة, فقد رأيت الخروج من هذه الدوامة والبحث عن موضوع أكثر هدوءا وأقل ضجيجا. وكنت أقرأ في كتاب حديث عن البيولوجيا, مما حفزني علي اختيار موضوع يبدو بعيدا عن التخصص الذي أعرفه الاقتصاد وهو موضوع الطبيعة البشرية.فهل هناك, حقا, ما يبرر الحديث عن طبيعة بشرية تجمع ما بين البشر؟ وإذا كان هذا صحيحا, فما صلة هذا الموضوع بالاقتصاد والاقتصاديين؟ وأبدأ بالتذكير بأن آدم سميث, وهو من يطلق عليه, أبو الاقتصاد, عندما أصدر كتابه الشهير عن ثروة الأمم, فقد مهد له بكتاب سابق بعنوان نظرية الشعور الأخلاقي. وفي هذا الكتاب ناقش فكرة الطبيعة البشرية تحت عنوان بواعث الأفراد في سلوكهم. ورأي أن الفرد أي فرد تحكمه ستة بواعث عند التصرف واتخاذ القرارات. وهذه البواعث هي: حب الذات, التعاطف مع الغير, الرغبة في الحرية, الإحساس بالملكية, عادة العمل, الميل للمبادلة. وإذا نظرنا إلي هذه البواعث, والتي تمثل في نظر آدم سميث الطبيعة البشرية, فإنها تشكل إلي حد بعيد العناصر الرئيسية للنظام الاقتصادي الذي دعا إليه. فالباعثان الأولان( حب الذات والتعاطف مع الغير) يفسران, إلي حد بعيد موقف سميث الاقتصادي, عند تأكيده ضرورة الانسجام بين الباعث الفردي والمصلحة الجماعية,وذلك من خلال حديثه عن اليد الخفية. فقد رأي آدم سميث أن الفرد عندما يسعي لتحقيق مصلحته الذاتية, فإنه يحقق في نفس الوقت المصلحة العامة, وذلك بما يوفره من سلع وخدمات للآخرين بتكلفة منخفضة وكفاءة أكبر لتحقيق أقصي ربح له( المصلحة الشخصية والمصلحة العامة). ولكن سميث لم يكن, مع ذلك, غافلا عن مخاطر المصالح الخاصة والتي كثيرا ما تعبث بالمصلحة العامة, فينسب إليه أيضا القول, بأنه ما إن اجتمع رجال الأعمال إلا للتآمر لرفع الأسعار وسرقة المستهلكين, وهكذا فإن باعث حب الذات عند آدم سميث ينضبط مع باعث التعاطف مع الآخرين لتحقيق التوازن بين الأمرين. ولا ننسي أن سميث كان إسكتلنديا أي من الأقلية البريطانية المظلومة ومن ثم فقد كان من أكبر المدافعين عن تحرير العبيد واستقلال المستعمرات وخاصة الولاياتالمتحدة. وإذا انتقلنا إلي الباعثين التاليين في الرغبة في الحرية والإحساس بالملكية, فإنها تعبر إلي حد كبير عن مفهومه للحرية الاقتصادية. وأخيرا فإن الباعثين الأخيرين في عادة العمل و المبادلة فقد كانا الأساس في تأكيد أهمية إتقان العمل وزيادة كفاءته عن طريق التخصص وتقسيم العمل, وبالتالي بضرورة المبادلة وظهور السوق. وهذا هو جوهر النظام الاقتصادي القائم علي التعاون المشترك بين الأفراد.وهكذا يتضح أن البناء الاقتصادي الذي شيده آدم سميث قد بني علي تصور خاص للطبيعة البشرية. والآن, وبعد مرور أكثر من قرنين علي ظهور كتاب آدم سميث, فهل ما زال الحديث عن الطبيعة البشرية علي ما كان عليه أم تغير المجال؟ لقد تطورت الأمور كثيرا. ولعل أهم هذه التغيرات هو أن الحديث عن الطبيعة البشرية لم يعد كما كان الحال قضية فلسفية تترك للفلاسفة والمفكرين. ولا ننسي أن آدم سميث كان أستاذا للفلسفة الأخلاقية في جامعة جلاسكو. أما الآن, فقد أصبحت مشكلة الطبيعة البشرية قضية علمية تناقش بأساليب البحث العلمي وخاصة في قوانين الوراثة وتطور البيولوجيا والأعصاب الحيوية وعلم النفس والسلوكيات. وهكذا انتقلت مشكلة الطبيعة البشرية من عالم الفكر والفلسفة, إلي عالم العلوم الطبيعية والبحث العلمي التطبيقي. وقد لعبت نظرية التطور لداروين دورا رئيسيا في هذه الاتجاهات الجديدة, ثم جاءت اكتشافات الجينات في الخمسينيات من القرن الماضي لدفع هذه الدراسات في مسالك جديدة, وخاصة في علوم الخلايا العصبية. وبذلك أصبح البحث عن الطبيعة البشرية مجالا لتلاقي العديد من العلوم الطبيعية خاصة في البيولوجيا والأعصاب والجينات مع علوم السلوكيات في علم النفس وما يرتبط بها. وهكذا, فالقضية أصبحت مشكلة علمية تطبيقية تعتمد علي الترابط والتداخل بين عدد من العلوم الطبيعية, بأكثر منها قضية فكرية أو فلسفية. ومازالت هذه القضية في مراحلها الأولي وخاصة فيما يتعلق بتطور العقل البشري. ولعله من الطريف أن نتذكر أن فكرة التطور ذاتها قد بدأت عند داروين, بعد قراءته كتاب الاقتصادي البريطاني مالتس عن الصراع بين الزيادة السكانية في مواجهة ندرة الموارد الزراعية. فنظرية داروين هي في النهاية تعبير عن صراع الكائنات للبقاء في مواجهة ندرة الموارد, أي أنها في جوهرها تعبير عن المشكلة الاقتصادية, كمشكلة لندرة الموارد. وإزاء هذه العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد ونظرية التطور, فقد أكد أحد الاقتصاديين أنه لو سئل عدد من الاقتصاديين المعاصرين عن مؤسس علم الاقتصاد, فإن الغالبية العظمي سوف تجيب بأنه آدم سميث, ولاشك. ولكنه تنبأ بأنه لو طرح نفس التساؤل علي الاقتصاديين بعد قرن من الزمان, فربما ستكون الإجابة بأن داروين هو أبو الاقتصاد الجديد الذي أطلق عليه البعض اسم الاقتصاد الحيويBionomics. وتقوم التكنولوجيا في هذا الاقتصاد المعاصر بما يشبه دور الجينات في التطور الحيوي. وكما ذكرنا, يغلب علي الباحثين في هذه الفروع العلمية الجديدة الأخذ بشكل أو آخر بنظريات التطور. ويبدو أن الرأي الغالب بين هؤلاء العلماء هو الاعتراف بأن هناك شيئا يقترب من الطبيعة البشرية والذي يجمع بين أفراد البشر, وأن هذه الطبيعة هي وليدة التطور, كنتيجة لتفاعل الجينات الموروثة من ناحية, والثقافة المجتمعيةCulture من ناحية أخري. وهذه صياغة حديثة للمقابلة القديمة حول مدي تأثير كل من الوراثة والبيئة. والفارق بين الصياغة القديمة والصياغة الحديثة, هو أن الحديث عن البيئة في الصياغة القديمة, كان يوحي بأن البيئة مستقلة تماما عن الإنسان, وأنها معطاة من الطبيعة تفرض نفسها علي الإنسان. ولكن الحقيقة هي أن البيئة ذاتها, قد أصبحت هي الأخري متغيرة بفعل الإنسان, خاصة مع التقدم التكنولوجي المذهل منذ الثورة الصناعية. أما الحديث عن الثقافة المجتمعة فهو تعبير عن الظروف البيئية والتي خضعت لفعل الإنسان نتيجة لتقدمه العلمي والتقني. وهكذا فإن هذه الثقافة العامة, هي أيضا حصيلة تفاعل البيئة المحيطة والتي تتغير نتيجة لأفعال الإنسان. وبذلك, فإن الحديث عن التفاعل بين الجينات والثقافة المجتمعة هو حديث مركب عن التطور, سواء بتطور الجينات أو بتغير البيئة وما يترتب عليها من إيجاد ثقافة إنسانية جديدة نتيجة لفعل الإنسان بعلمه وأدواته, وميراثه من الجينات والذي يولد ثقافة عامة, ما تلبث أن تؤثر بدورها في سلوك الإنسان. كذلك فإن الإنسان بتقدمه العلمي والمعرفي يؤثر أيضا في الجينات نفسها بما يحققه من تقدم في الصحة وعلوم الطب, وبالتالي في الجينات الموروثة. فلولا التقدم الطبي, لاختفي عدد كبير من أفراد البشر والذين ما كانوا ليعيشوا وينجبوا وتستمر جيناتهم في التكاثر. ولا شك أن الثقافة المجتمعية السائدة والتي تؤثر في سلوك الأفراد, تتأثر أيضا بما حققه الإنسان من قدرة علي التعارف والتواصل بين مختلف أجزاء المعمورة. فالتقارب بين الشعوب يزداد بشكل متواصل ولا يرجع ذلك فقط لاشتراك المجموعات البشرية في الخصائص الجينية الوارثة, بل أيضا لأن الثقافات المجتمعية تتجه للتقارب والتداخل نتيجة للتقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال والمواصلات وزيادة حجم التبادل بين الأفراد من مختلف الشعوب فضلا عن تزايد حجم المعلومات المتاحة وانتشارها علي مستوي العالم. فالشعوب تتعارف وتتقارب ثقافاتها بأكثر مما نظن. فالعولمة ليست فقط ظاهرة اقتصادية تكنولوجية, بل إن لها أيضا ملامح وتأثيرات علي الطبيعة البشرية ذاتها من خلال الاتجاه نحو إيجاد نوع من الثقافة العالمية. وإذا كانت الطبيعة البشرية هي حصيلة التفاعل بين الجينات والثقافة العامة, وكانت هذه الثقافة تتجه نحو العالمية, فإن البشرية تتجه هي الأخري نحو مزيد من التقارب والتشابه, وذلك نتيجة لوحدة المكونات الجينية للإنسان من ناحية, ومزيد من التقارب في الثقافة العامة للبشرية من ناحية أخري. فاحترام الحريات وحقوق الإنسان كاد أن يصبح جزءا من الثقافة العامة الإنسانية. وهكذا فالصراعات العنصرية والطائفية التي نشاهدها اليوم ليست سوي شذوذ وأمراض ورثناها من الماضي. الطبيعة البشرية واحدة في مكوناتها الجينية وهي تتجه إلي التقارب ثقافيا مع التوجهات العالمية للتبادل والاتصال. ومع ذلك, فإن ما تقدم ليس كل الحقيقة. فالإنسان مازال يحمل غرائز موروثة بأنه ينتمي إلي قبيلة, يميز بها نفسه في مواجهة القبائل الأخري. فالتاريخ البشري لا ينحصر في مواجهة الفرد للطبيعة وحدها, وإنما في مواجهة قبيلته للقبائل الأخري أيضا. ومع الإدراك المتزايد لمخاطر الحرب الحديثة علي الجنس البشري في مجموعه, فإن الاتجاه المعاصر هو محاولة تحويل الانتماء القبلي الموروث إلي نوع من المنافسة الرياضية بين مختلف النوادي بل والتعصب لها أحيانا, كما رأينا أخيرا في أحداث بورسعيد. وهكذا يتضح أننا إزاء طبيعة بشرية تتماثل في مكوناتها الجينية وتتجه للتقارب في ثقافتها العامة, إن كانت تحمل الآثار الموروثة من الانتماء القبلي القديم. ومازال الطريق طويلا. والله أعلم. نقلا عن جريدة الأهرام