محافظ بني سويف: زراعة 100% من المستهدف بالمرحلة الثانية من مبادرة 100 مليون شجرة    الناتو يوافق على مهمة دعم وتدريب لأوكرانيا    كندا ترسل 2300 صاروخ من طراز "CRV7" إلى أوكرانيا    خبير: كلمة الرئيس السيسي بمؤتمر غزة خاطبت الشعور الإنساني العالمي    «أولمبياد باريس 2024 الأخيرة».. رافائيل نادال يعلن موعد اعتزاله التنس    «حاجة تكسف».. تعليق ناري من أيمن يونس على تصريحات محمد عبدالوهاب    بروكسي: ندرس عدم مواجهة الزمالك في بطولة الكأس    السجن المشدد 3 سنوات وغرامة 50 ألف جنيه لمتهم بحيازة حشيش وسلاح في الشرقية    حبس عاطلين بتهمة سرقة هواتف المواطنين بالأزبكية    السجن من 3 ل7 سنوات للمتهمين بقتل الطفلة ريتاج بمدينة نصر    دعاء يوم عرفة 2024.. الموعد وفضل صيامه والأدعية المستحبة    محافظ الشرقية يفتتح النصب التذكاري للشهداء    تخرج الدورة الأولى للمعينين بالهيئات القضائية من الأكاديمية العسكرية المصرية    الأنبا تيموثاوس يدشن معمودية كنيسة الصليب بأرض الفرح    الكويت: حبس مواطن ومقيمين احتياطا لاتهامهم بالقتل الخطأ فى حريق المنقف    يورو 2024.. نزلة برد تجتاح معسكر منتخب فرنسا    تطورات جديدة في بلاغ سمية الخشاب ضد رامز جلال    اليوم.. نتفليكس تعرض فيلم الصف الأخير ل شريف محسن    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الجمعة 14-6-2024، السرطان والأسد والعذراء    وزير التجارة يبحث مع اتحاد المصنعين الأتراك مقومات الاستثمار بمصر    أسواق عسير تشهد إقبالًا كثيفًا لشراء الأضاحي    تعرف على شروط الخروج على المعاش المبكر 2024.. للقطاعين (الخاص والعام)    رضا عبد العال: أرفض عودة بن شرقي للزمالك    قرار جمهوري بتعيين الدكتور فهيم فتحي عميدًا لكلية الآثار بجامعة سوهاج    محاولة اختطاف خطيبة مطرب المهرجانات مسلم.. والفنان يعلق " عملت إلى فيه المصيب ومشيته عشان راجل كبير "    رئيس صندوق التنمية الحضرية يتابع الموقف التنفيذي لمشروع "حدائق تلال الفسطاط"    وكيل الصحة بمطروح يتابع سير العمل بمستشفى مارينا وغرفة إدارة الأزمات والطوارئ    «يوم الحج الأعظم».. 8 أدعية مستجابة كان يرددها النبي في يوم التروية لمحو الذنوب والفوز بالجنة    فطار يوم عرفات.. محشي مشكل وبط وملوخية    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الأقصر    مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية يحذر من مصدر جديد للأمراض في غزة    صور | احتفالا باليوم العالمي للدراجات.. ماراثون بمشاركة 300 شاب بالوادي الجديد    نقيب الأشراف مهنئًا بالعيد: مناسبة لاستلهام معاني الوحدة والمحبة والسلام    انفجار مولد الكهرباء.. السيطرة على حريق نشب بمركز ترجمة بمدينة نصر    قطع الكهرباء عن عدة مناطق بطوخ الجمعة (موعد ومدة الانقطاع)    بيان عاجل بشأن نقص أدوية الأمراض المزمنة وألبان الأطفال الرضع    آداب عين شمس تعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني    قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أكتوبر 2024    مصرع مواطن صدمته سيارة أثناء عبوره لطريق الواحات    ضبط نجار مسلح أطلق النار على زوجته بسبب الخلافات فى الدقهلية    أمل سلامة: تنسيقية شباب الأحزاب نموذج للعمل الجماعي    باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي.. ضبط تشكيل عصابى تخصص فى النصب على المواطنين    المفتى يجيب.. ما يجب على المضحي إذا ضاعت أو ماتت أضحيته قبل يوم العيد    إيران: ما يحدث بغزة جريمة حرب ويجب وقف الإبادة الجماعية هناك    عاجل| رخص أسعار أسهم الشركات المصرية يفتح شهية المستثمرين للاستحواذ عليها    بالأسماء.. غيابات مؤثرة تضرب الأهلي قبل موقعة فاركو بدوري نايل    وزارة الصحة تستقبل سفير السودان لبحث تعزيز سبل التعاون بالقطاع الصحى بين البلدين    محافظ القليوبيه يتابع أعمال إنشاء مستشفى طوخ المركزي    يوم عرفة.. إليك أهم العبادات وأفضل الأدعية    حملة مرورية إستهدفت ضبط التوك توك المخالفة بمنطقة العجمى    «معلومات الوزراء»: 73% من مستخدمي الخدمات الحكومية الإلكترونية راضون عنها    وزيرة التخطيط تلتقي وزير العمل لبحث آليات تطبيق الحد الأدنى للأجور    بالتعاون مع المتحدة.. «قصور الثقافة»: تذكرة أفلام عيد الأضحى ب40 جنيهاً    حريق هائل في مصفاة نفط ببلدة الكوير جنوب غرب أربيل بالعراق | فيديو    البرازيل تنهي استعداداتها لكوبا 2024 بالتعادل مع أمريكا    هاني سعيد: المنافسة قوية في الدوري.. وبيراميدز لم يحسم اللقب بعد    القائمة الكاملة لأفلام مهرجان عمان السينمائي الدولي في نسخته الخامسة    هشام عاشور: "درست الفن في منهاتن.. والمخرج طارق العريان أشاد بتمثيلي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير التطوريين
نشر في الشعب يوم 24 - 05 - 2008


عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا
yehia_hashem@ hotmail .com


إذا كان ماركس لم يهتم بكتابات داروين إلا من حيث إفادته في موقفة العدائي من الدين والمثالية ، فإن إنجلز تأثر بداروين تأثراً عميقاً ، وبدأت علي يديه عملية تطعيم النظرية الماركسية ببعض التأثيرات الداروينية ، عن طريق إبراز التكنولوجيا كوسيلة يعتمد عليها الحيوان البشري للتكيف مع البيئة الطبيعة .
ثم كان كل من جوردن تشايلد وليزلي وايت من أكبر علماء الاجتماع المشايعين للاتجاهات القديمة اللذين يخرجان التطورية الكلاسيكية في كتاباتهما ببعض آراء سبنسر وماركس.
ولكن آراء تشايلد وليزلي وايت لا يمكن اعتبارها ممثلة للعلم الاجتماعي الحديث كما يقول جون جرين : فقد تعرضت هذه الآراء للنقد اللاذع من علماء الأنثربولوجيا ، وقد جاء معظم هذه الانتقادات من جوليان ستيوارد .
يقف جوليان ستيوارد موقف المعارضة من التطورية الكلاسيكية التي كانت تبحث عن القوانين العامة التي تحكم تطور الثقافة الإنسانية ككل ، وتحاول إعادة بناء التاريخ عن طريق افتراض سير الأحداث في خط واحد أو طريق واحد ، وتذهب في ذلك إلى تصور أن المجتمعات والثقافات لابد أن تمر بمراحل متتابعة محددة ومرسومة بدقة ، بحيث تكون كل مرحلة منها مترتبة علي ما سبقها من مراحل ، وتؤدي في الوقت ذاته إلي المرحلة التالية .
فلقد نبذ جوليان ستيوارد منذ البداية فكرة البحث عن تلك القوانين التي يزعم التطوريون الكلاسيكيون - ومعهم جوردون تشايلد ، وليزلي وايت - أنها تحكم التطور الثقافي والاجتماعي ككل ، كما نبذ الفكرة التي كانت سائدة من قبل من أن التطور الثقافي هو امتداد للتطور البيولوجي أو أنه يلازم " التقدم " .
ويؤمن جوليان ستيوارد بما يسميه " النسبية الثقافية " و " التفرد التاريخي " ومع ذلك فإنه يميل إلى ( أن التطورات الثقافية تخضع للقانون ، وأن التكيف مع البيئة الطبيعية عامل هام في التغير الاجتماعي ) .
وفي هذه النقطة يختلف ستيوارد مع الكثيرين من علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا الذين يميلون إلي التهوين من شأن البيئة الطبيعية والدور الذي تلعبه الثقافة ، علي أساس أن البيئة الواحدة قد يوجد بها أنماط ثقافية مختلفة ( وأن النمط الثقافي بالتالي يتطور حسب عوامل وعناصر ديناميكية . داخلية تتحدي كل التوقعات العلمية ) .([1])
يقول الدكتور أحمد أبو زيد :
( إن كتابات العلماء المعاصرين تعتمد في المقام الأول علي الدراسات الميدانية ما أمكن ، وعلى الحقائق المؤكدة ، بعكس الحال في كتابات القرن الماضي التي كانت تعتمد علي ما أسماه دوجالد ستيوارت بالتاريخ الظني أو التخميني لمعرفة الصورة الأولى التي كانت عليها النظم الاجتماعية : لإعادة تركيب تاريخ المجتمعات البشرية وتصنيفها ، من حيث درجة رقيها وترتيب مراحل الحضارة التي مرت بها هذه المجتمعات حتى الآن ، وذلك حسب نظام عقلي دقيق يرسمون هم أنفسهم خطته ويحددونه تحديداً تعسفياً .
ولذا فكثيرا ما يصلون إلي نتائج غريبة ومتناقضة ، فبينما نجد - علي سبيل المثال - السير هنري مين يذهب إلي أن العائلة الأبوية هي الشكل الأول للنظام العائلي على الإطلاق ، نجد باخوفن يذهب إلى أن الإنسانية عرفت أولا - بعد مرحلة الإباحية المطلقة -نظام العائلة الذي يرتكز على الانتساب إلى الأم قبل أن تصل إلي العائلة الأبوية ،) ([2])

إن معارضة الغالبية العظمى من التطوريين المعاصرين للنظرية التطورية الكلاسيكية لا تتوقف عند حد عدم قبول المماثلة بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي والاجتماعي ، وتأكيدهم لأهمية التفرد التاريخي والنسبية الثقافية ، وإنما تذهب ببعضهم إلى حد إنكار أن يكون التنافس والصراع من وسائل التقدم الاجتماعي على ما كان يذهب إليه هربرت سبنسر في نظريته عن البقاء للأصلح .
فكلمة الأصلح في رأيهم اصطلاح غير دقيق ومضلل ، ولا يفيد بالضرورة الامتياز والسمو في الخصائص والقوى والقدرات في كل الأحوال .
وهذا معناه أن العلماء المعاصرين - ويشاركهم في ذلك عدد من علماء البيولوجيا أنفسهم - يميلون إلي التشكك في الدور الذي يلعبه الانتخاب الطبيعي في التاريخ البشرى والتهوين من أهمية ذلك في التاريخ ) ([3])
إن ألفريد لويز كرويبر هو العالم المعاصر الذي بدد الأحلام في إقامة علم طبيعي للتطور التاريخي ، و أسدل ستارآ كثيفا على هذه الدعوة .
وتقوم آراء كرويبر على التمييز بين المدخلين التاريخي .. والعلمي لدراسة الظواهر الاجتماعية ، فالعلم إنما يعنى بالتجريد والبحث والدقة في القياس ، ويستعين في ذلك بإجراء التجارب الدقيقة . وذلك بعكس المنهج التاريخي الذي لا يسعه إلا أن يبين نواحي الشبه بين الظواهر الثقافية والكشف بالتالي عن الأنماط لا القوانين .
ومع أن كرويبر يرى أن كلا المنهجين يمكن تطبيقهما على كل الظواهر الموجودة في الكون بلا استثناء ، فإنه يقرر أن استخدام المنهج العلمي يحقق نجاحآ أكبر في دراسة الظواهر العضوية بينما يناسب المنهج التاريخي دراسة الظواهر الثقافية الاجتماعية والسيكولوجية .
وبهذا التمييز يهدم كرويبر كثيرآ من آمال العلماء التطوريين المحدثين .
ولا يهتم كرويبر في كتابه " صيغ النمو الثقافي " بالبحث في " لماذا " أى عن أسباب التغير الاجتماعي ، اعتقادا منه أن المهمة الأولى للأنثروبولوجى هي البحث عن " كيف " أى عن الطريقة التي تعمل بها الثقافات .
كما كان يرى أن التاريخ أوسع وأعمق وأكثر تنوعآ من أن يرد إلى مجرد عدد من العوامل المتتابعة . ([4])
يقول كرويبر: ( إن العمليات الحضارية الفعالة تكاد تكون مجهولة لدينا ، والعوامل التي تتحكم في بناء الحضارات لا تزال لغزآ بالنسبة لنا .. وليس في وسع المؤرخ حتى الآن سوى أن يبحث عن الأشياء ، ويصل ما بين الذي يبدو منها متباعدا جدآ ، ويوازن ويوحد ، لكنه في الحقيقة لا يفسر ، ولا هو من حقه أن يمسخ الظواهر شيئآ آخر . إن طريقته ليست هي العلم ، وإن كل الذي نستطيع أن نقوم به جميعا هو أن نتحقق من هذه الفجوة ، وأن يخلف فينا عمقها اللامتناهي انطباع المهابة والتواضع ، وأن نمضي في سبيلنا على حافتيها دون القيام بمحاولات كاذبة لسد الفجوة الأبدية ، أو التفاخر بلا حق بإقامة جسر بين حافتيها) ( [5] )
يقول الدكتور أحمد أبو زيد: في الاعتماد على نذر قليل من المعلومات والاكتفاء بالتأملات الافتراضية ... والأحكام الاعتقادية :
إن النظريات التي كان يصنعها هؤلاء العلماء [ التطوريون ] لم تكن تقوم على الحدس والتخمين فقط ......
وإنما كان يداخلها على ما يقول إيفانز برتشارد : كثير من العناصر التقويمية أيضا .. وكانت تفسيراتهم للنظم الاجتماعية لا تعدو أن تكون موازين ومعايير نظرية [ قبلية ] لقياس التقدم ، بحيث توضع أشكال النظم أو العقائد التي كانت موجودة في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر في طرف ، وتوضع النظم والعقائد البدائية في الطرف المقابل .
وهكذا نجد أنه على الرغم من إيمانهم بأهمية المذهب التجريبي في دراسة النظم الاجتماعية ، فإن علماء القرن التاسع عشر لا يكادون يقلون عن الفلاسفة الأخلاقيين في القرن الثامن عشر اعتمادا على الجدل والتفكير النظري والمسلمات التحكمية ) ([6]) .
ويقول الدكتور هرمان رندال في بيان كيف قامت هذه النظريات على " تأملات استنتاجية " لاعلى منهج علمى تجريبي :
(إن المذاهب الاستنتاجية التأملية الكبيرة التي رتبت الوقائع بحيث تنسجم مع افتراضاتها كمذهب كونت وسبنسر انهارت أمام هجمات المحققين الباحثين ).
ويقول :
( إن علماء تطوريين بارزين كهربرت سبنسر ولستر . ف وورد الأمريكى بالرغم مما قد زينوا به صفحات مؤلفاتهم من الألفاظ البيولوجية .. بقوا إلى حد كبير من أصحاب المذهب الاستنتاجي - التأملي - المعتمدين على اليقينيات المسبقة ، إذ يبتدئون من بضع مقدمات مفترضة ، ويذهبون منها إلى بناء مذاهب واسعة ، وهذا واضح كل الوضوح في حالة سبنسر الذي عالج التطور وهو متأثر بالميول الموروثة من القرن الثامن عشر ، المنادية بالمذهب الميكانيكي في العلم ، وبمذهب حرية العمل في المجتمع .
لقد حاول سبنسر أن يقحم جميع الحقائق ضمن مجرى تطوري كوني منسجم واحد ينمو كل شيء فيه من حالة بسيطة غير متميزة إلى حالة عضوية بالغة الفردية
وحاول أن يثبت - على طريقة القرن الثامن عشر - أن ثقل الكون بكامله يكمن وراء النظرية الفردية في المجتمع .
وهكذا بالرغم من أهمية منزلته بإدخال فكرة التطور العامة في دراسة المؤسسات الاجتماعية ، فإنه أيضآ نقل الطريقة الاستنتاجية إلى مفاهيم التطور ، وقد استغرق تحرير العلوم الاجتماعية من هذا النقل المضلل والافتراض التوكيدي جيلا بكامله .
وقبل أن ينهي عمله الضخم بزمن طويل أصبحت صفحات كتابه صفراء وعديمة الجدوى ) ([7])
ويقول عن هربرت سبنسر ، وا . ب تايلور : إنهما عمما من بضع ملاحظات نظما بسيطة قاسية ، بموجبها تنمو المؤسسات التي تتفتح بذاتها بصورة آلية متبعة نفس الترتيب في كل أنحاء العالم ، وبناء على ذلك كان لابد للمجتمع في كل مكان أن يجتاز نفس المراحل المحدودة منذ الشيوعية البدائية والحرية الجنسية ، حتى الأشكال ( العليا) للحضارة الأوروبية الحالية .( وقد أدخلت الحقائق بمهارة في هذه القواعد ، دون أقل انتباه إلى الوسائل التي تجرى بها هذه التبدلات على اعتبار أنها كانت تتم " بالتطور " .
ونذكر من هؤلاء العلماء التطوريين التوكيديين ، لويس مورغان الذي وجد خطته بين الهنود الأيركوبيين ، وهم لسوء الحظ جماعة فريدة من نوعها .
و ج.ج فريزر الذي يحوى كتابه " الشجرة الذهبية " معلومات زاهية مغلوطة وصلت إليه بطريق غير مباشر.
بعد مرحلة البدء هذه دخل على الأنثروبولوجيا مرحلة أخرى تحطمت فيها نظرياته المحببة بفعل الحقائق الباردة . فاضطرت فكرة التطور الثابت السائر في خط واحد ، إلى التراجع إزاء الدراسة الممحصة ) .
ويقول :
( لقد كان من المستحيل تقريبا أن يتجنب الباحث انتخاب حقائقه التي يريدها على نور نظرية سبق أن اعتقد بها .
وما شيده بناة الأنظمة هدمه النقاد . ففى علوم الاقتصاد ، ونشأة الإنسان والاجتماع والسياسة ، بل في كل حقل أخذ كبار المفكرين يشعرون أن جميع النظريات لاتلبث أن تفند بزيادة المعلومات .
لكن هنالك شيئا واحدا بدا أنه وحده قد اكتسب بصورة نهائية : وذلك هو أن على الناس أن يجدوا الحقائق ، وأن يدعوا النظريات تتحمل نتيجتها ، تلك كانت حالة العلوم الاجتماعية العامة في مطلع القرن الحاضر )[ العشرين ].

ويبين الدكتور هرمان راندال النتائج السلبية الهدامة التي يؤدى اليها إيمان العلماء بهذه النظريات :
( كانوا دائما يبدءون من معرفة ناقصة عن المجتمع البشرى المعقد التركيب ، معتقدين دائما بأن من الممكن استكشاف بضعة مبادئ بسيطة وإنشاء علم كامل منها ، وكانوا ينتهون دائما إلى نظرية اجتماعية قادرة على تحطيم العقائد التقليدية ، ولكنها عاجزة عن أن تقيم بدلا عنها نظاما أكثر شمولا منها ، كان كل منهم يحمل فكرة علم الاجتماع عظيمة الأهمية ولكن أحدآ منهم لم يكن يملك لا الطريقة ولا الحقائق اللازمة لإنجاز مثل هذه المهمة . لهذا نرى العلوم الاجتماعية التي نشأت في القرن الثامن عشر بالرغم من كونها أدوات انتقادية عظيمة قد انتهت إلى نظم شاملة ومتحجره أثبتت عجزها عن أى حل ) ([8])

ويقول الدكتور أحمد أبو زيد في : التطور الأخير لعلم الاجتماع المعاصر
( أخذت المشكلات التطورية تتراجع بشدة وتتوارى من التفكير الاجتماعي والأنثروبولوجي المعاصر .
أو على الأقل تتخذ شكلا جديدا يختلف عما كانت عليه في القرن الماضي. كذلك فإن نظرية التقدم الاجتماعي عن طريق الانتخاب الطبيعي لم تعد تؤخذ بعين الاعتبار الآن .
وبدلا من محاولة إبراز النواحي البيولوجية ، في التطور البشري ومقابلتها بالتطور الاجتماعي والثقافي ، فإن العلماء المعاصرين يفضلون أن ينظروا إلى الإنسان على أنه حيوان ناقل للثقافة ، وبهذا فإنهم يميزون بين الانسان وبقية الحيوانات تمييزآ قاطعآ ، يكاد يماثل ما كان عليه الموقف قبل عصرداروين ......
وجانب كبير من مسئولية انحسار التطورية الكلاسيكية يقع على عاتق النزعة البنائية الوظيفية التي سيطرت على الدراسة الاجتماعية والأنثروبولوجية من القرن الحالي )
( ويمكن القول بوجه عام أن التطورية المعاصرة تختلف عن النظريات السابقة في ناحيتين أساسيتين :
تتعلق الأولى منهما بأشكال التكيف الثقافي ، إذ حلت فكرة التكيف الثقافي محل البحث عن الأصول الأولى ، ومحل مبدأ الصراع .
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن عملية التكيف الثقافي لاتشمل البيئة الطبيعية فقط ، بل وكل عمليات التوافق مع النظم والأنساق الاجتماعية ، والاختراعات والاكتشافات والاستعارات الثقافية . كل هذا يؤلف المادة الخام للتغير التطوري في الثقافة )

( وتتعلق ثانيتهما بالتوفيق بين الاتجاهات والمبادئ التي كانت تعتبر متناقضة في الماضي ) .

هذا ويهتم العلماء المعاصرون الآن بدراسة بعض المشكلات التي لم تكن تجد كثيرا من العناية من جانب العلماء السابقين ولعل أول هذه الأمور :
ما الذي يتطور؟ هل هي الثقافة ككل التي كان علماء القرن التاسع عشر يتصورون أنها تمر خلال عدد من المراحل الكبرى ؟ أم أن الذي يتطور هو بعض الأنساق الاجتماعية المعينة بالذات ؟
( وإن كان الرأي الأخير لا ينفي تأثر الكل بهذه التغيرات الجزئية فهو على كل حال يتميز عن المنظور التطوري العام الذي يعتبر مقياسا للتقدم .

المشكلة هي : هل يتم التطور بطريقة لاشعورية ولاعقلانية ويخضع لعوامل لا يدركها الإنسان أو يتم حسب خطة مرسومة بشكل أو بآخر ؟
ومع القول بأن الخطة المرسومة لاتمنع من ظهور نتائج غير متوقعة ، فإن هذا لا يمكن اعتباره مساويا للانتخاب الطبيعي في البيولوجيا ، لأن عملية الانتخاب الثقافي تخضع في كثير من الاحيان لقدرة الإنسان على تحليل سلوكه وترتيب أموره وتدبيرها.

والمشكلة الثالثة هي : أين تكمن الدوافع التطورية ؟
هل توجد في وسائل الإنتاج أو في التكنولوجيا أو في صراع الطبقات ، أو في تقسيم العمل ، أو في قوة من قوى الكون يصعب إدراكها وتحديدها ؟
إن العلماء المعاصرين يميلون إلى عدم ربط التطور بأشكال الحياة الاقتصادية وحدها في جميع الحالات وهم يرون أنه : من السفه افتراض أن التطور يحدث دائما في كل الأحوال في قطاع معين بالذات من قطاعات الثقافة ).

والخلاصة هي أن معظم الأنثروبولوجيين الثقافيين لم يعودوا يحفلون بدراسة الثقافة الإنسانية كلها لإطلاق أحكام عامة عليها ، وهم يرون أنه ( يتعين على العلماء قبل أن يقدموا على مثل هذه الدراسة أن يدرسوا أولا عمليات التغير الثقافي التي تحدث بالفعل في ثقافات محددة معينة ، دراسة تفصيلية مركزة )
( ويظهر ذلك بشكل واضح في كتابات فرانزبواز الذي يعتبر بحق شيخ الأنثروبولوجيين في أمريكا فهو يعارض بشدة : الفكرة السائدة عن وجود صيغة واحدة ثابتة للتطور الثقافي ، تنطبق على الماضي مثلما تنطبق على المستقبل بالنسبة لكل المجتمعات وبغير استثناء ، وأن التطور يسير دائما من البسيط إلى المركب في مراحل معينة ومرسومة تحدد بالضرورة درجات التقدم التي أحرزها الجنس البشري كله ) ([9])
يقول الدكتور هرمان راندال : ( إنها لسخرية غريبة أن موقف علمي الحياة والنفس قد قوى الاتجاه اللاعقلي الذي أراد محاربته ‍‍‍‍!
ذلك لأنه اذا كانت الاعتقادات بالدرجة الأولى وسائل لمؤالفة المحيط ، فكيف يكون مصير الحقيقة ، بل مصير العلم ذاته ؟
لا يمكن أن يكونا سوى شكل خاص للمؤالفة البيولوجية ، تجلبه بسبب نجاح وظيفته فى تثبيت دعائم الحياة ، فالحقيقة بأى معنى آخر ، الحقيقة المطلقة التي نادى بها قدماء العقليين عديمة المعنى فى عالم متطور ، ألا يمكن حينئذ أن يكون صحيحا أى اعتقاد يؤدى إلى نتيجة ؟ هكذا بدا الباب مفتوحا بالنسبة للكثيرين من أجل أن يبرروا تبريرآ جديدآ إيمانهم المقدس )
انظر : تكوين العقل الحديث ج 2 ص 156
وها قد رجعنا من خلال العلم إلى دعم الأسطورة في حلقة مفرغة لا يمكن أن تعني التقدم من خلال التطور !! أليس كذلك ؟
فهل يبقىبعدذلك للتطورية الاجتماعية " سند يصلح لمصاولة الدين " الدين الذي هو عند الله الإسلام ؟
إن النتيجة التي نخرج بها من هذا المبحث هو أن التطور والتقدم كليهما لا يفسر لنا "الدين " بل ندعى - على العكس من ذلك - أن الدين هو وحده الذي يمكنه أن يقدم تفسيرآ للتطور والتقدم .
------------------------------------------------------------------------
([1]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص117 - 120 0
([2]) عالم الفكر يناير فبريا مارس 1973 ص122 0
([3]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 122 - 125
([4]) عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 122 - 125 0
([5]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 195 - 197
([6]) عالم الفكر يناير فبراير مارس ص 116
([7]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 167 ، 168 0
( [8]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 463
([9]) انظر بحث الدكتور أحمد ابوزيد فى مجلة عالم الفكر يناير فبراير مارس 1973 ص 120 : 129


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.