عاجل- بورصة الدواجن: 89 جنيها سعر كيلو الفراخ اليوم الخميس    عضو الأهلي السابق: طفشت أمونيكي من الزمالك بعرض خارجي كان بيعكنن على الأهلاوية    وزارة الحج والعمرة تطالب ضيوف الرحمن بضرورة حمل بطاقة نسك في كل خطوات رحلة الحج    طيران الاحتلال يقصف مناطق عسكرية ل«حزب الله» (فيديو)    حريق هائل يلتهم مصفاة نفط على طريق أربيل بالعراق    انخفاض أسعار النفط بعد مفاجأة المركزي الأمريكي بشأن الفائدة    موعد مباراة الأهلي المقبلة أمام فاركو في الدوري المصري والقناة الناقلة    طائرات مسيرة تطلق النار على المنازل في حي الشجاعية والزيتون بمدينة غزة    توقعات المركز الوطني للأرصاد السعودي: هذه حالة طقس مكة المكرمة والمشاعر المقدسة اليوم الخميس    ضربات أمريكية بريطانية على مجمع حكومي وإذاعة للحوثيين قرب صنعاء، ووقوع إصابات    قرار عاجل من فيفا في قضية «الشيبي».. مفاجأة لاتحاد الكرة    يورو 2024| أغلى لاعب في كل منتخب ببطولة الأمم الأوروبية    بريطانيا تقدم حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة 309 ملايين دولار    انتعاش تجارة الأضاحي في مصر ينعش ركود الأسوق    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: جحيم تحت الشمس ودرجة الحرارة «استثنائية».. مفاجأة في حيثيات رفع اسم «أبو تريكة» وآخرين من قوائم الإرهاب (مستندات)    متى موعد عيد الأضحى 2024/1445 وكم عدد أيام الإجازة في الدول العربية؟    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    محمد ياسين يكتب: شرخ الهضبة    حامد عز الدين يكتب: لا عذاب ولا ثواب بلا حساب!    عقوبات صارمة.. ما مصير أصحاب تأشيرات الحج غير النظامية؟    الوكيل: تركيب مصيدة قلب مفاعل الوحدة النووية ال3 و4 بالضبعة في 6 أكتوبر و19 نوفمبر    عيد الأضحى 2024.. هل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟    تصل ل«9 أيام متتابعة» مدفوعة الأجر.. موعد إجازة عيد الأضحى 2024    مفاجأة مدوية.. دواء لإعادة نمو أسنان الإنسان من جديد    في موسم الامتحانات| 7 وصايا لتغذية طلاب الثانوية العامة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل اللحم المُبهر بالأرز    محمد عبد الجليل: أتمنى أن يتعاقد الأهلي مع هذا اللاعب    المجازر تفتح أبوابها مجانا للأضاحي.. تحذيرات من الذبح في الشوارع وأمام البيوت    هل يقبل حج محتكرى السلع؟ عالمة أزهرية تفجر مفاجأة    التليفزيون هذا المساء.. الأرصاد تحذر: الخميس والجمعة والسبت ذروة الموجة الحارة    شاهد مهرجان «القاضية» من فيلم «ولاد رزق 3» (فيديو)    حزب الله ينفذ 19 عملية نوعية ضد إسرائيل ومئات الصواريخ تسقط على شمالها    أبرزها المكملات.. 4 أشياء تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يواصل اجتماعته لليوم الثاني    24 صورة من عقد قران الفنانة سلمى أبو ضيف وعريسها    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة وفقاً للمعايير الدولية    بنك "بريكس" فى مصر    لماذا امتنعت مصر عن شراء القمح الروسي في مناقصتين متتاليتين؟    صدمة قطار.. إصابة شخص أثناء عبور شريط السكة الحديد فى أسوان    .. وشهد شاهد من أهلها «الشيخ الغزالي»    التعليم العالى المصرى.. بين الإتاحة والازدواجية (2)    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    محمد الباز ل«كل الزوايا»: هناك خلل في متابعة بالتغيير الحكومي بالذهنية العامة وليس الإعلام فقط    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    سعر السبيكة الذهب الآن وعيار 21 اليوم الخميس 13 يونيو 2024    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    أستاذ تراث: "العيد فى مصر حاجة تانية وتراثنا ظاهر فى عاداتنا وتقاليدنا"    الأهلي يكشف حقيقة مكافآت كأس العالم للأندية 2025    الداخلية تكشف حقيقة تعدي جزار على شخص في الهرم وإصابته    اليوم.. النطق بالحكم على 16 متهمًا لاتهامهم بتهريب المهاجرين إلى أمريكا    انتشال جثمان طفل غرق في ترعة بالمنيا    مهيب عبد الهادي: أزمة إيقاف رمضان صبحي «هتعدي على خير» واللاعب جدد عقده    «الأهلي» يزف نبأ سارًا قبل مباراة الزمالك المقبلة في الدوري المصري    بعد ارتفاعه في 9 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 13 يونيو 2024    «رئيس الأركان» يشهد المرحلة الرئيسية ل«مشروع مراكز القيادة»    فلسطين تعرب عن تعازيها ومواساتها لدولة الكويت الشقيقة في ضحايا حريق المنقف    قبل عيد الأضحى.. طريقة تحضير وجبة اقتصادية ولذيذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدني في وحدات الكوماندوز.. خلف خطوط العدو "4"
نشر في المساء يوم 17 - 03 - 2012

اتاحت ظروف عمل المفكر والكاتب الكبير عبده مباشر في بلاط صاحبة الجلالة لأكثر من نصف قرن فرصا للاقتراب من رؤساء مصر الثلاثة ناصر والسادات ومبارك.. وعن الظروف والاسباب يكتب مجموعة من المقالات يكشف فيها الكثير من الاسرار والخفايا التي كانت تجري في الشارع الخلفي بعيدا عن الأضواء.. وعلي هذه الصفحة تنشر "المساء الأسبوعية" مقالات الكاتب الكبير.
بعد تجربة اللقاء الأول بالرئيس جمال عبدالناصر. قضيت وقتا طويلا أراجع وأتأمل ما جري. وكثيرا ما عدت للمثل المصري الجميل الذي سمعته من والدي ومن أمي رحمهما الله عشرات بل مئات المرات ألا وهو.. ¢امشي عدل يحتار عدوك فيك¢ ولا أقصد هنا أن عبدالناصر هو العدو أبدا. بل كان الرئيس الذي يبحث عن خطأ ما في الحوار الذي أجريته مع الملك فيصل. وما سبق وواكب وأعقب هذا الحوار من أحداث وملابسات.
انتهي اللقاء بصورة إيجابية للغاية بالنسبة لي حتي ولو كنت قد حزنت علي عدم نشر الحوار. وما كان يمكن أن يضيفه لي في مشواري المهني. ولكن الخروج بسلام كان أفضل آلاف المرات من نشر مثل هذا الحوار..
وكانت هناك ضغوط ومحاولات كثيرة من رؤسائي وزملائي لمعرفة ما جري مع عبدالناصر. وكنت أردد علي مسامع الجميع مدي حزني لأنه رفض النشر. وكفي. وكنت أعلن في بعض الأحيان. قائلا. لابد أن لديه أسبابا قوية لعدم نشر هذا الحديث. ولم يكن وهو الرئيس ليبوح بهذه الأسباب لصحفي في بداية الطريق.
أما مصطفي أمين. فلم يسألني قط. ولابد أنه لاحظ أنني تغيبت عن الجريدة لعدة أيام. وأن التليفون كان وسيلتي لإملاء مع ما لدي من أخبار أو موضوعات.
مرت التجربة. وكنت علي اقتناع أنها غير قابلة للتكرار. وأنني لن ألتقي بعبدالناصر مرة أخري.
ودارت الأيام. وانشغلت بعملي ودراستي وقراءاتي وبالسفر إلي اليمن بين الحين والحين. ولم أكن أتوقع أن مشروع السفر للدراسة سيطرق بابي في نفس العام عام 1966. وأنه سيفتح الباب لتجربتين متتاليتين للاقتراب من عالم رئيس الجمهورية.
وكنت قد طرحت فكرة السفر للدراسة علي الأستاذ جلال الحمامصي. وخلال مناقشتها. أوضحت له أنني درست القانون الذي أحببته. واخترت الصحافة المهنة التي لم أرض بها بديلا. ولهذا فإنني أتطلع للسفر لدراسة الصحافة دراسة أكاديمية ومتعمقة.
وقبل أن ينتصف العام أبلغني أنه رشحني للسفر للدراسة ببرلين عاصمة ألمانيا الشرقية. وعلق قائلا. إنها دولة شيوعية. فأجبته قائلا إن العلم هو العلم أيا كانت القبعة التي يضعها الأستاذ علي رأسه.
وخطوة إثر خطوة. انتهت الإجراءات. وسافرت إلي برلين. وانتظمت في الدراسة مع مجموعة من الدارسين تضم أعدادا من الصحفيين العرب.
وننغمس في الدراسة وفي تجربة الحياة بأوروبا بكل أبعادها. وننشط داخل اتحادات الطلبة. ويقع علينا الاختيار لنتحمل المسئولية.
ولأن هناك نقصا في عدد كبير من السلع في ألمانيا الشرقية. كنا نرسل واحدا منا كل أسبوع إلي برلين الغربية ليعود ومعه احتياجاتنا من هذه السلع.
وصباح الاثنين 5 يونيو 1967. توجهت إلي برلين الغربية لشراء احتياجات المجموعة. وكنت أفضل دائما التسوق من أكبر مركز تجاري في برلين الغربية. وربما هو الأكبر في القارة. حيث يمكنني العثور علي كل ما أريد خلال فترة زمنية قصيرة. بعدها أصعد إلي الكافتيريا والمطعم. وأتناول إفطاري وأنا أقرأ الصحف. وأشاهد معالم برلين الجميلة من هذه النقطة المرتفعة.
وعندما وصلت إلي باب هذا المركز التجاري. وجدت لافتة موضوعة علي المدخل تقول ¢ادفع ماركا تقتل عربيا¢ وأفقت من الصدمة التي لم أتوقعها ومن مشاعر الغضب. وبدأت أبحث عن السبب في مثل هذه الحملة. فقد استنتجت أن الإعلان أو اللافتة جزء من حملة تبرعات عامة وراءها ما وراءها. ولابد أن قوي يهودية هي التي أطلقتها.
وأدركت أنني بملامح وجهي العربية يمكن أن ألفت الأنظار لو خاطرت وسألت. وكان علي أن أبحث عن موظفة صغيرة السن بلا خبرة كبيرة بالسياسة. وفعلا عثرت علي ضالتي. وأخبرتني عندما سألتها عن اللافتة. أن العرب بدأوا الحرب ضد إسرائيل. وأنهم يستهدفون إبادة الإسرائيليين وتدمير الدولة.
إذن لقد بدأت المعركة. ووفقا لتصريحات كبار القادة ورأس الدولة. فإن النصر في متناول اليد.. هكذا تصورت ثقة مني في كل ما قاله المسئولون أصحاب القرار وقتذاك. وعدت بسرعة. وأبلغت الجميع باندلاع الحرب.
ومنذ رأيت هذه اللافتة وأنا أتساءل. ولماذا لا أنظم حملة مماثلة. ولماذا لا يكون الشعار ¢ادفع ماركا تنقذ عربيا¢.
واتصلت بالمسئولين الألمان في برلين الشرقية. ولم أحصل علي إجابة واضحة. فأخبرت من التقيت بهم بالحملة التي انطلقت في برلين الغربية وبالقطع في مدن أخري. وبما أن الدولة تناصر العرب والقضية الفلسطينية وعلي علاقة طيبة بالنظام المصري وبالرئيس جمال عبدالناصر. فإنني أتوقع الموافقة علي انطلاق حملتنا في ألمانيا الشرقية. وأرجو أن يتحقق ذلك قبل أن يتوقف إطلاق النيران. وقالوا سنعقد اجتماعا. وسنتصل بك ووافقوا. وقدموا المساعدة المطلوبة. ونظموا برنامجا لزيارة المصانع والشركات واجتماعات بمقار الحزب الشيوعي.
وتم تقسيم العمل فيما بين المسئولين باتحاد الطلبة. وبمباركة السلطة. بدأت التبرعات تتدفق. وكان السفر والمؤتمرات والحوارات واللقاءات اليومية تستمر طويلا. ولم نتوقف ولم يمنعنا الإجهاد من الاستمرار وبعد أيام. طلبت منهم أي من الجانب الألماني مد نطاق الحملة ليشمل برلين الغربية. فاستغربوا الطلب. وأنكروا وجود أي علاقة مع برلين الغربية. وتركتهم يترافعون في هذه القضية. وبعد أن انتهوا أوضحت لهم أن كل ما أريده هو موعدا للقاء الطالب الألماني رودي دوتشكه الذي يلعب دورا نشيطا في الأوساط السياسية والطلابية في برلين الغربية. وأكدت لهم أنني أعلم أن هناك اتصالات بينهم تتم بشكل دوري.
ومرة أخري قالوا. إنهم سيعقدون اجتماعا وسأسمع منهم فور انتهاء الاجتماع والتوصل لقرار.
وتحدد الموعد المطلوب. وقدم رودي دوتشكه لي يد المساعدة لجمع تبرعات لمصلحة مصر في برلين الغربية. ولم يكتف الرجل بإجراء الاتصالات بالشركات والمؤسسات. بل رافقني خلال الكثير منها. وكان لدوره وحضوره تأثير كبير علي حصيلة حملة التبرعات.
وخلال هذه الفترة. كنت أتابع العمل من أجل العودة إلي مصر. بعد أن تبينت أن الهزيمة قد حاقت بالجيش المصري. بالإضافة إلي الجيشين الأردني والسوري. كانت الصورة مفجعة ببشاعتها ومريرة.
واقترح المسئولون الألمان. بعد أن وصلت حصيلة التبرعات شرقا وغربا إلي أكثر من مليوني مارك غربي. أن يستبدلوا المبلغ النقدي بحمولة من الأدوات والمعدات والأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية. وقالوا إنهم سيوفرون لنا طائرة تنقلنا إلي العاصمة السودانية الخرطوم. ومنها ربما إلي أسوان لو كانت الظروف تسمح بذلك. والباقي تتولاه السلطات المصرية.
وفوجئت خلال كل ذلك بالسفير المصري الذي يتحمل مسئولية القنصل العام في ألمانيا الشرقية لأن مصر لم تكن قد اعترفت بعد بهذه الدولة وبالتالي لم تكن هناك علاقات دبلوماسية بينهما. يطلب مني تسليمه كل التبرعات التي تم جمعها. فسألته. وهل شاركت بأي جهد في حملة جمع التبرعات؟ لقد تقاعست. ولم تحرك ساكنا. والآن وبعد أن نجحنا. تريد أن تسرق نجاحنا. وتسجل نقطة ثمينة لحسابك في القاهرة. فرد قائلا: إنني مجرد طالب بعثة. ولذا فإنه مسئول عني. وهو الطرف الذي يحق له تسليم هذا المبلغ للمسئولين بالقاهرة. فأجبته بأنه غلطان جدا. فأنا صحفي ولست طالبا. ثم إنني سأقطع الدراسة وأعود إلي القاهرة. فقال إن التعليمات التي لديه تقضي باستمرار الجميع في الدراسة. فأكدت له أنني سأعود إلي القاهرة. وسأحمل معي كل ما جمعناه. فاتهمني بأنني أريد أن أحتفظ بالمبلغ لنفسي. فقلت له. إنك تجاوزت. وستدفع ثمن هذا التجاوز وستعتذر لي علنا وأمام كل من يعملون تحت رئاستك. والذين شهدوا هذا الحديث. وتركته لأتوجه إلي برلين الغربية لأتحدث مع سكرتير الرئيس عبدالناصر. وبعد محاولات تمكنت من الاتصال به. وأبلغته بالاقتراح الألماني وبالحمولة الطبية وبالحصيلة التي تم جمعها خلال حملة التبرعات التي نظمناها. وأبدي دهشته من هذا النجاح. وسأل. ولماذا لم يفعل آخرون مثلما فعلت؟
وسمع مني تفاصيل رحلة العودة عبر الخرطوم. ثم نقلت إليه ما جري مع السفير القنصل العام. فأبدي استياءه. وقال إنه سيتصل بي عن طريق القنصلية لإبلاغي بالقرار فيما يتعلق برحلة العودة. وأن ذلك ربما يكون اليوم أو غدا وعلي أن أتابع ذلك. وأن أنسق مع المسئولين الألمان.
وعندما عدت وجدت السفير يبحث عني. وتوجهت إلي مبني القنصلية. وهناك سمعت اعتذارا منه أمام الجميع وأبلغني أن مكتب سيادة الرئيس قد اتصل. وأن العودة ستكون بالطائرة الألمانية إلي قبرص ومنها ستعود بطائرة مصر للطيران التي ستطير من الإسكندرية إلي العاصمة الفيرجية في رحلة خاصة لنقل الحمولة الطبية. ثم تحلق للهبوط بمطار النزهة بالإسكندرية.
وتمت الترتيبات مع الألمان. وعدنا إلي الإسكندرية وفقا للخطة الموضوعة. وتسلم المسئولون الشحنة. وكان في انتظاري سيارة عادت بي إلي منزلي مساء يوم 15 يونيو 1967.
وكان الاحتكاك الثاني بالرئيس. أو التجربة الثانية للاقتراب من عالمه بشكل غير مباشر.
وبالنسبة لي لم يكن الأمر مخططا علي الإطلاق. ولكنها مجرد حلقات. كل منها تقود إلي الأخري دون أن تبوح بشيء. إلي أن تصل إلي النتيجة. والتي تعد بصورة أو بأخري حلقة من حلقات حياتنا. ستفضي إلي أخري. وهكذا.
وفي تلك اللحظات لم أكن أعرف أو حتي أخمن أن هناك اقترابا آخر من عالم الرئيس عبدالناصر.
لقد عدت إلي مصر. وأصبح اهتمامي الرئيسي أن أعرف ماذا حدث؟ وكيف؟
والمعلومات إما عند البشر أو في وثائق. وكنت مهتما بالاثنين.
ولم يكن هناك وقت للراحة. وكان من الضروري أن أزور الجبهة ابتداء من الإسماعيلية وصولا إلي بورسعيد. وأن ألتقي بالقادة الموجودين وأسمع منهم مباشرة. وذلك قبل أن ألتقي بالقادة الكبار أينما كانوا. سواء في الخدمة أو في التقاعد بمنازلهم.
والتقيت بالعشرات طوال فترة زيارتي للجبهة. وانطلقت الألسنة تتحدث بصراحة كان الغضب والسخط والألم والإحساس بالمرارة يسيطر علي الجميع. وطالت الاتهامات معظم أهل الحكم والقيادة.
وجاء الدور علي القادة. ولم يختلف الأمر كثيرا. وكان المحالون إلي التقاعد الأكثر مرارة خاصة بعد أن تبينوا أن محمد فوزي قد غدر بهم وأن كثيرين يمكن أن يتحولوا إلي كبش فداء.
وبين كل هؤلاء سأتوقف أمام المقدم إبراهيم الرفاعي. لأن الاتصال به هو الذي فتح الباب للاقتراب من عالم عبدالناصر مرة أخري.
هذا المقاتل العبقري. التقيت به عقب نجاحه المبهر في عملية الهجوم علي معسكر الدبابات لقوات الاحتلال الإنجليزي في مدينة بورسعيد أثناء عدوان 1956. حكي الرجل ببساطة وتواضع تفاصيل هذه العملية الفدائية. وبعد أن انتهي فوجئ وأنا أقول له ¢ضع في اعتبارك منذ الآن أنني أقدم منك في العمل الفدائي. وعليك احترام هذه الأقدمية¢ وسألني باستغراب ودهشة كيف؟ فحكيت له تجربتي كفدائي قاتل ضد قوات الاحتلال الإنجليزي عام 1951. ومنذ تلك اللحظة لم تعد العلاقة بيننا علاقة بين ضابط وصحفي بل صداقة متينة. والتقيت به في اليمن مع قادة قوات الصاعقة هناك والصاعقة البحرية..وعندما نظمت قيادة قوات الصاعقة طابور سير من مدينة إنشاص إلي بورسعيد في ديسمبر عام 1964. كان قراري السير معهم خطوة بخطوة. فالزملاء سيعتمدون علي اللقاء بالقادة. وأعني قادة الصاعقة وقادة الكتائب المشاركة في نهاية كل مرحلة. وبالتالي فليس هناك فرصة للتميز. لذا قررت أن أكون مع الصاعقة طوال المشوار. أقترب من الجميع. وأسمع منهم.
وبدأ الرهان فيما بينهم حول الأمر.
واكتشف قادة الكتائب المشاركة. أن وجودي مع أي كتيبة يجعل نتائجها أفضل. فالضباط والصف والجنود يتابعون مدنيا يسير معهم. وكلهم يحاول أن يكون الأفضل. لذا بدأ قادة الكتائب المشاركة في مطالبتي بالسير معهم. وقررت أن أقضي يوما مع كل كتيبة. ودخلت بورسعيد مع الكتيبة رقم 13 التي يقودها الرفاعي.
وتكرر الأمر في طابور السير من القاهرة إلي الإسكندرية في فبراير عام 1966. وكسبت صداقة الآلاف من الرجال. ومن خلال الثقة التي أولاها لي بعض القادة والضباط. بدأت أسمع تفاصيل المحاولات الانقلابية التي شارك فيها بعض منهم.
وتعددت اللقاءات والحوارات والحكايات إلي أن سافرت للدراسة في ألمانيا الشرقية. وكان منطقيا أن أتصل بالرفاعي بعد العودة. ويسألني عما إذا كنت قد علمت أنه في طريقه لتشكيل مجموعة فدائية للعمل خلف خطوط العدو!
ونلتقي ويشرح لي العقبات التي يضعها سعد الشاذلي قائد القوات الخاصة أمامه.
ويطلب منه مدير المخابرات تنفيذ عمليتين داخل سيناء. الأولي تفجير تشوينات الذخيرة التي تركتها القوات المصرية أثناء انسحابها. والثانية نسف قطار كان من المقرر أن ينقل الصواريخ المصرية أرض أرض من طراز القاهرة والظافر لاستعراضها في شوارع العاصمة الإسرائيلية في يوم الاحتفال باستقلال إسرائيل.
كانت العملية الأولي تشهد في حرمان إسرائيل من استخدام كل هذه الذخيرة لتشغيل كل الأسلحة المصرية من دبابات ومدفعية وغيرها والتي تركتها القوات المنسحبة دون تخريبها. وبما يضاعف من حجم السلاح في يد القوات الإسرائيلية. أما العملية الثانية. فكانت حفاظا علي الكبرياء والكرامة المصرية التي ستتعرض للأذي من جراء استعراض هذه الصواريخ.
وينفذ الرجل ما طلبه منه مدير المخابرات الحربية. ولا يتوقف الرفاعي عن العمل من أجل إنشاء هذه المجموعة الفدائية.
واستيعد تلك الفترة الذهبية التي امتدت من أكتوبر 1951 حتي يناير 1952 التي شهدت ميلادي كفدائي يشارك في العمليات ضد قوات الاحتلال الإنجليزي بمنطقة القناة ولا شك أن هذه الفترة قد أضافت لي الكثير من الخبرات والمعلومات. وباختصار كانت تجربة في غاية السخاء والصعوبة. وربما بسبب صغر السن وقلة التجارب. لم أتمكن من تقدير حجم الأخطار التي تحيط بمثل هذا العمل. ولكن كانت القضية الوطنية هي الدافع القوي وراء هذه المشاركة.
هذا الفتي الوطني الذي حاول بذل الجهد لإنهاء الاحتلال الإنجليزي. استيقظ قويا وعفيا وأنا أتابع ما يقوله إبراهيم الرفاعي حول العمل الفدائي ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. وعرضت عليه الانضمام لهذه المجموعة. فيقبل بل ويرحب.
وأناقش الأمر مع مدير المخابرات. وبعد أن يسأل ويدقق ويستفسر. يطلب مهلة للتفكير في الأمر.. وفي النهاية أتقدم بطلب التطوع في صفوف مجموعة الكوماندوز التي يقودها الرفاعي بالصفة المدنية. ويوافق الرفاعي علي طلبي. ويكتب تزكية يؤكد فيها أنني سبق أن حصلت علي دورة تدريبية بوحدات الصاعقة وبمدرسة القفز بالمظلات. وأن لياقتي البدنية عالية. وروحي المعنوية قوية. كما أنني شاركت في طابور سير بالصاعقة الأول من إنشاص إلي بورسعيد والثاني من القاهرة إلي الإسكندرية.
وأحمل أوراقي إلي اللواء صادق. وقبل أن يوافق. يقترح عليه نائبه اللواء محرز عبدالرحمن أن أوقع إقراراً بأن القوات المسلحة غير مسئولة عني في حالات الأسر أو الفقد أو الإصابة أو الاستشهاد. ولأقطع الطريق أمام مناورة اللواء محرز. أكتب الإقرار وأوقعه. ويقرر مدير المخابرات الاحتفاظ به في مكتبه. ويوافق علي طلب التطوع. ومن بعده يوافق الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وأصعد إلي الدور الثاني بمبني وزارة الحربية للحصول علي موافقة الوزير الفريق أول محمد فوزي. والتي تصورت أنها مضمونة. إلا أنه يرفض الطلب. ويسألني. هل تريد أن تعرف المزيد من أسرار القوات المسلحة؟ ويواصل قائلا. إنني أرفض مثل هذا الطلب. حتي لا أفتح أمامك مزيدا من الأبواب للاطلاع علي أسرار عسكرية. فأوضح له أن مدير المخابرات الحربية. الرجل المسئول عن أمن وأسرار القوات المسلحة قد وافق وأن رئيس الأركان فعل نفس الشيء. وأعتقد أن قضية الأمن والأسرار لم تغب عنهما. فيقول بحسم. إنني القائد العام. وأرفض طلب تطوعك. فأستأذنه في عرض الأمر علي الرئيس عبدالناصر باعتباره القائد الأعلي للقوات المسلحة.
وأخرج من مكتبه. وأتوجه إلي مكتب مدير المخابرات الحربية. وأنا في حالة من الغم والحزن العميق لموقف الوزير. فيخبرني بعد أن قصصت عليه ما جري. أنه هو الذي سيعرض الأمر علي الرئيس عبدالناصر.
ويستغرب الرئيس موقف الفريق أول فوزي. ويوضح للواء صادق. أن اشتراك مدني في عمليات خلف خطوط العدو. سيكون أحد العوامل المؤثرة في شحذ همة الرجال بالجبهة ورفع معنوياتهم. وسيسأل كل رجل نفسه. إذا كان هناك مدني يفعل ذلك. فإنه يمكنهم أيضا تنفيذ عمليات خلف خطوط العدو. ثم قال بوضوح. إن دور عبده مباشر كمتطوع مدني بالكوماندوز لن يختلف عن دور الشئون المعنوية.
ويحسم عبدالناصر الأمر. ويقرر قبول تطوعي بالضفة المدنية بوحدة الكوماندوز التي حملت فيما بعد اسم المجموعة 39 قتال.. وبعد عودته من لقاء رئيس الجمهورية. يقول لي. إن مثل هذا الاستثناء ليس له سابقة في التاريخ المعاصر للقوات المسلحة. فلأول مرة يوافق رئيس الجمهورية علي اشتراك مدني في العمل الفدائي العسكري. وأكد أن الرئيس بالضرورة سيتابع. وسيحرص علي أن يعرف. هل كان علي صواب في تقديره للموقف أما لا؟
ويطلب مني ومن أجهزة أخري معرفة رد فعل اشتراكك في عمليات داخل سيناء بين القوات الموجودة بالجبهة.
ونصحني بأن أضع في اعتباري دائما. أن كل ما سأقوم به داخل هذه المجموعة مرصود. فليس من المألوف وجود مدني وصحفي بين المقاتلين وما يتداولونه من معلومات وأسرار. وباستثناء غير مسبوق من رئيس الجمهورية القائد الأعلي للقوات المسلحة.
وأمر الرفاعي بإعادة تأهيلي لما أنا مقبل عليه. وعندما حان الوقت للاشتراك في العمليات. طلب مني الرفاعي خلال العملية الأولي أن أبقي بجواره طول الوقت. وقد نفذت الأمر حرفيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.