احد عشر يومًا أمضيتها في رحلات ممتعة في رحاب البيت العتيق رغم المعاناة الشديدة والمتاعب التي كانت تحيط بكل خطوة علي الأرض الطيبة في الأماكن المقدسة. مشاعر متدفقة ولذة ذات طعم خاص لمن أراد الله له الانطلاق لأداء مناسك الركن الخامس من أركان الإسلام. منذ أن هبطت الطائرة في مطار المدينةالمنورة ومشاعر الفرحة تسري في الوجدان. رياح طيبة ونور يتجلي في الآفاق. سلوكيات أهل المدينة تمتاز بحسن الخلق رغم قسوة ولغة تخاطب ضيوف الرحمن الذين توافدوا في آخر رحلات الطيران. رحابة وتعامل بالحسني وتجاوز لكل الخلافات. تنفيذ التعليمات بدقة وعبارات تقطر محبة وتصميماً علي استلام جوازات السفر في إطار التنظيم الذي وضعته السلطات السعودية. رغم الاختلاف الشديد مع ضوابط هذه التعليمات إلا أن أبناء المدينةالمنورة كانوا في منتهي قوة الانضباط والتمسك بحرفية التنفيذ والتغاضي عما يصدر من عبارات وكلمات طائشة تعبر عن ضيق الصدر لهذه الاجراءات التي تضيف معاناة شديدة للحجاج وزوار طيبة الطيبة. خاصة في رحلة السفر من المدينة إلي أم القري ومتاعب التفويج لركوب السيارات. لقد كظم الشباب غيظهم وتغلبوا علي كل العقبات. وكان لهم ما أرادوا. استلموا الجوازات. ولم يستطع أي فرد الافلات من قبضتهم ويقظتهم لكل وسائل الهرب. ولا يهمهم ما يعانيه الحجاج والزوار. تركيزهم علي أداء دورهم بإتقان. وعندما ينتابك الضيق لهذا الروتين تجد ابتسامة ولباقة في الحديث تمتص الغضب. ويذكرك الشباب بعدم رفع الصوت في رحاب مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم. أمتعة الزوار اختلطت ببعضها والحقائب قام مجموعة من عمال جنوب شرق آسيا بوضعها في سيارة نقل خاصة برحلة سياحية من القاهرة وفشلت كل المحاولات في استعادة حقائب بعض الزوار. مما اضطرني إلي استئجار سيارة والانطلاق إلي الفندق الذي يقيم به حجاج هذه الرحلة وقد كانت المفاجأة حيث وجدت أمتعتي قد تم حملها بطريق الخطأ إلي الفندق. فور وصولي إلي مقر إقامتي بالمدينةالمنورة توجهت إلي مسجد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. وقد كانت مشاعر الشوق إلي هذه الرحاب الطاهرة تفوق الوصف. أديت صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير. وبكل الحنين أسرعت إلي الروضة الشريفة فأديت بها ما شاء الله لي من النوافل. فهذا المكان تشعر فيه بالرهبة والحب وتلتزم بكل الضوابط. فلا رفع للصوت ولا جدال مع أحد في هذا الزحام وسط طوفان من البشر من مختلف الجنسيات والبلدان. السعادة مضاعفة في هذا المكان الذي قال عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". التنافس والتسابق علي أشده بين الزوار للفوز بمكان والتشبث به لكي يتمكن الزائر من أداء صلوات يتقرب بها إلي رب العباد. لكن هناك البعض لا يفسح المكان لآخرين كي يؤدوا الصلاة وعندما تطالبهم بكل أدب برحابة الصدر وسعة الأفق والترحيب والافساح بكل راغب في الصلاة تجد كلمات تعبر عن مدي الغضب ولا يسعك إلا ضبط النفس والالتزام بالأدب في هذا الجوار الكريم. واللسان يلهج بالدعاء لهؤلاء الزوار بأن يرقق الله قلوبهم وأن يكونوا أكثر حنانا وشفقة بإخوانهم القادمين لهذه الساحة الشريفة. بعد الصلاة في الروضة الشريفة تشرفت بالسلام علي سيد الأنام سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وأبلغته سلام كل من حملني السلام إلي حضرته الشريفة مع خفض الصوت والنظر بكل تواضع للمقام الرفيع. وقد كانت الفرصة الثمينة حيث توقفت دقائق في رحاب مثوي الأعظم العطرات أخذت أردد "السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا سيد الخلق أجمعين. لقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة ونصحت الأمة. السلام عليك يا صاحب اللواء المحمود والحوض المورود ويا صاحب الشفاعة العظمي".. ودعوت بما أجاد الله عليَّ من دعوات. أسأل الله أن يستجيب بحوله وقوته. ثم تقدمت خطوات وتشرفت بالسلام علي أبي بكر الصديق صاحب سيدنا رسول الله في الغار والذي تبرع بكل ماله لوجه الله ورسوله. الحب أهم صفاته وكل المكارم تجسدت في الصديق -رضي الله عنه- وبعد مسافة قصيرة وقفت أمام الفاروق عمر وشعرت بالرهبة أمام هذا الصحابي الجليل ذي القوة الإيمانية. الأنوار تتدفق والمشاعر فياضة في هذه الرحاب الطاهرة. الإيمان مستقر في القلوب والدعاء ينطلق لبارئ الأرض والسماء بأن يكون القبول هو الجائزة الكبري في هذه الأيام المباركة وبتلك الساحة الطاهرة. الشغف شديد بأداء الصلاة في الروضة الشريفة وخلال أداء صلاة المغرب في اليوم التالي بساحة المسجد النبوي وفي الركعة الأولي. أخذ الإمام يقرأ آيات من "سورة النبأ" وعندما وصل إلي قول الله تعالي: "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه" أجهش بالبكاء بصوت مسموع وانهمرت في نفس اللحظة دموع المصلين خلفه. الكل يحدوه الرجاء ويتردد في جوفه ووجدانه الأمل بأن يكون التوفيق حليفه يوم الحساب الأكبر. وأن يتسلم بتوفيق من الله كتابه بيمينه وينظر إلي الأعمال الصالحة التي قدمها ويرجو من الله تعالي التجاوز عن الخطأ ولسان حال زوار هذه الرحاب الطاهرة يردد قول الله تعالي: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته علي الذين من قبلنا. ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين". إنها المتعة الحقيقية.. وإلي لقاء آخر نستكمل فصول الرحلة المباركة.. ودعوات إلي الله العلي القدير بأن يتقبل كل أعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم. [email protected]