جمعتني الصدفة بأسرة مصرية ممن يطلق عليهم "أثرياء الصدفة" وهم الذين أصبحوا اغنياء بحكم ماورثوه.. أي أن مصدر ثرائهم لم يكن نتيجة العمل أو التعب والشقاء.. وقد اكتشفت من خلال أحاديثي مع بعضهم أن كل ما يفكرون فيه هو السفر إلي الخارج لقضاء اجازة حتي لو كانت يومين.. المهم أنهم يريدون السفر لمجرد السفر والتباهي بأنهم كانوا في الخارج في اجازة دون أن يكون لديهم أي هدف أو غرض.. أي أن المسألة كلها مظهرية.. ومنظرة و"فشخرة" وعندما نسألهم عما شاهدوه وعن الفائدة التي حققوها نجد ردهم ينحصر في أن الأسعار غالية وكل شيء أصبح مرتفع الثمن.. وسعر الجنيه المصري لم يعد كما كان.. فقد انخفض كثيراً بمعني آخر ردود غير مقنعة لأن الهدف من السفرية غير موجود. بصراحة اتعجب كثيراً عندما أصادف مثل هؤلاء الأسر التي لا تعرف قيمة لما ورثوه.. خصوصاً وأن سعر السفر أصبح مرتفعاً للغاية ويتكلف الكثير والكثير.. فأسعار تذاكر السفر أصابها جنون الأسعار. بعد أن زادت الأجور وتضاعفت قيمة الخدمات ومصروفات ايواء وعبور الطائرات وهبوطها في المطارات واجراءات الحصول علي تأشيرات الدخول أصبحت سخيفة وكأن الحصول عليها لدخول الجنة بالإضافة إلي رسومها العالمية.. يضاف إلي ذلك أسعار الاقامة في فنادق الخارج التي تتزايد كل عام بالإضافة إلي فروق زيادة أسعار العملات الأجنبية بالنسبة للجنيه المصري. والخلاصة أن سعر السفر إلي الخارج لقضاء اجازة أصبح مكلفاً.. ولم يعد له قيمة خاصة وأن قضاء الاجازة في مصر أفضل كثيراً من قضائها في الخارج.. خصوصاً وأن مصر تمتلك العديد من المقاصد السياحية والشواطئ الرائعة بسواحل هادئة علي البحر الأحمر والأبيض مما يجعلها من أجمل مصايف العالم.. بخلاف المقاصد الأخري. وهذه المقاصد لم تكن قائمة قبل ثورة 23 يوليو. حيث كانت الإسكندرية ورأس البر هما المصيفان المفضلان لمعظم المصريين.. وكان زعماء مصر ورؤساء وزرائها يحلو لهم السفر في الصيف إما للاستشفاء أو للاستجمام بالإضافة إلي بعض الأثرياء.. الذين كانوا يفضلون قضاء اجازاتهم في الخارج.. وكانت حجتهم في ذلك أن الشواطئ المصرية مزدحمة وقليلة.. كذلك لم يكن هناك أي قيود علي العملات الأجنبية بل كان سعر الجنيه المصري أقوي كثيراً من أسعار العملات الانجليزية والأمريكية والفرنسية وغيرها.. وبعد ثورة 23 يوليو.. اختلفت الأوضاع وتغيرت الأحوال وأصبحت العملات الأجنبية يطلق عليها "العملة الصعبة" نظراً لأنها أصبحت عزيزة المنال ونادرة التداول بين المصريين بعد أن وضعت الدولة قيوداً علي استخدامها.. وتقلصت قيمة الجنيه المصري ولم يعد له قوة.. فقد اصابه الضعف وأصبح رخيصاً مقابل باقي العملات.. وترتب ذلك فرض قيود علي السفر ولم يعد قضاء الاجازات في الخارج أمراً مرغوباً بل كان شبه ممنوع.. اكتفاء بالسفر في المهام أو العلاج أو الدراسة.. ولم تكن هذه الأسباب متاحة إلا من خلال الحصول علي اذن بالسفر من مصلحة الجوازات حيث يتم ختم الجواز بخاتم الموافقة علي السفر مع تحديد السبب.. والمدهش أن السفر كان يتم في بعض الأحيان بدون تحويل عملة.. وكان يصرف للمسافر مبلغ خمسة جنيهات استرلينية كبدل للمسافر طوال رحلته.. وفي نهاية السبعينيات من القرن الماضي تقرر الغاء معظم القيود التي كانت مفروضة علي السفر للخارج والغاء اذن السفر المستخرج من الجوازات.. فصار السفر متاحاً للجميع.. وعرف المصريون السفر إلي الخارج للسياحة.. واتذكر أن فؤاد سلطان وزير السياحة الأسبق كان قد أصدر توجيهات بأن تقوم شركات السياحة بتنظيم الرحلات السياحية للمصريين بشرط أن يقوموا بجلب سياح من الخارج وذلك باعتبار أن الدخل السياحي يساعد في مسائل سفر المصريين للخارج.. ويبدو أن هذا القرار لم يعد معمولاً به الآن علي أساس أن البنوك المصرية تتولي تدبير العملة الحرة للمسافرين.. وعموماً فإنه لا يمكن منع المصريين من السفر إلي الخارج إلا في الأحوال التي تشترط حدوداً معينة تستلزم الحصول علي اذن في الوقت نفسه فإن الدستور أقر به حرية السفر لكافة المواطنين.. أما الذين يحبون المنظرة والفشخرة والتباهي بالسفر إلي الخارج.. فإن مصر أمامهم فليتمتعوا بها وبجمالها وروعتها.. نحن في أشد الحاجة إلي أن يتعرف المواطنون علي بلادهم.. بلادنا أجمل والسفر فيها يحقق الانتماء والحب والنماء.