"الغالي ثمنه فيه".. "لبِّس البوصة تبقي عروسة".. "امشي معرش ولا تمشي مكرَّش".. "اللي معاه قرش يسوي قرش".. "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".. "أحييني النهاردة وموتني بكرة".. "صاحبي قرشي وعمي دراعي".. "اللي تعرف ديته اقتله".. "هين قرشك ولا تهين نفسك".. خذ من هذا كثيراً جداً.. وأنا أدين هذا الشعب من خلال كلامه وثقافته "من ذقنه وافتله".. ثقافة المنظرة والسعار الاستهلاكي.. ثقافة اعتبار الغلاء معياراً للجودة.. جودة السلعة وجودة الخدمة.. ثقافة اعتبار مقاطعة السلع والخدمات الغالية عيباً وبخلاً ودليل فقر. والفقراء في مصر يمارسون المنظرة والفشخرة أضعاف أضعاف الأغنياء والفقير قد يدخل جمعية واثنتين لشراء موبايل حديث وكل شيء في بلدنا لا حل له إلا بالفلوس التي تحيي النفوس والشكوي في مصر وحدها دون دول العالم أجمع صارت أغنية شعبية وهي عندنا وحدنا مقرونة بالمنظرة والتباهي بالقوة الشرائية فهذا عرض والده المريض علي أحسن طبيب في البلد.. وكيف عرفت أنه الأفضل؟ يقول لك: "ده كشفه 500 جنيه" وهذا أحسن مدرس رياضيات في مصر لأنه يعطي الحصة الواحدة بمائتي جنيه وهذا أعظم محام لأنه الأغلي.. الغلاء معيار الجودة والتميز والتفوق لذلك صار رفع الأسعار أفضل دعاية للتاجر والمحامي والطبيب والمدرس والإعلامي الفضائي الذي كلما ارتفع أجره أقبلت عليه الفضائيات وحقق أعلي نسبة مشاهدة.. وارتفاع أجر الفنان "النص كم" يزيده شعبية ونجومية. ولم أعد أصدق شكوي المصريين من الغلاء لأنها ليست شكوي المتألم وغير القادر. ولكنها شكوي المتباهي بقوته وقدرته الشرائية.. هو يشكو من الغلاء كمقدمة ضرورية لإظهار أنه استطاع الشراء رغم نار الغلاء كما أن المصريين يشتكون لغرض آخر وهو غرض فلكلوري قديم وأعني به الخوف من الحسد "والقر".. كل مصري يود أن يوصل إليك أنه "تعبان في حياته" حتي لا تحسده يعاني في عمله وبيته وصحته وجيبه وتربية أولاده.. يعاني من سيارته الفارهة وهاتفه المحمول الأحدث.. كل هذه المعاناة الوهمية حتي لايتعرض للحسد. الشكوي أغنية شعبية هدفها منع الحسد والعين.. والمصري لا يقول لك أبداً إنه يحمد الله وإنه مرتاح في حياته وراض لأن هذا الحمد والشكر يعرضانه للحسد بل ان المصري يفتعل المعاناة ويختلق المشاكل الخرافية لنفسه ولأسرته حتي يدرأ عن نفسه الحسد. الرضا والقناعة يعرضانك للحسد والحمد والشكر يجلبان لك المكروه والعين.. فلا ترض أبداً ولا تحمد الله أبداً.. هذا شعار المصريين حتي إذا اضطروا للحمد والشكر يفعلون ذلك بتبرم وضيق ويوحون إليك بأن الأمور علي غير ما يرام. فيقول دوماً: "ياللا.. الحمد الله علي كل حال.. حنعمل إيه يعني؟ ربنا عايز كده" وهكذا تصل إليك الرسالة بأن الأمور "زي الزفت". وأن كلمة "الحمد لله" نفسها شكوي ويأس وتبرم وتأفف وكل هذا لمنع الحسد.. كل هذا كذب. لذلك لا تصدق شكوي المصريين فنحن أغني شعب لكننا أفقر دولة.. نحن منفلتون في الاستهلاك ونشكو.. نحن الذين نرفع الأسعار وليست الدولة.. الدولة في مصر بعد وكسة يناير لم تعد تملك من أمرها شيئاً.. الدولة في مصر لا تملك ولا تحكم وصلت إلي مرحلة إدارة المشاكل لا حلها وصلت إلي مرحلة الجمهور في قاعة العرض.. تتفرج علي فيلم أو مسرحية هزليين لم تؤلفهما ولم تخرجهما ولم تقم بأي دور فيهما وفي النهاية المفتوحة علي "البحري" يقال للجمهور.. المخرج عايز كده والمؤلف والمخرج والأبطال والكومبارس هم الشعب المصري. وما يحدث في الشارع المصري وما يفعله الشعب المصري يشبه تماماً أفلامنا ومسرحياتنا وأعمالنا الدرامية "مافيش موضوع".. "مافيش فكرة".. لكن هناك إفيهات ومطاردات وتكاتك ودراجات نارية ورصاص ومعارك.. عنوانها جميعاً التفاهة والفوضي. لا يوجد بطل ولا موضوع ولا فكرة. كل واحد في الفيلم وفي الشارع يعمل اللي هو عايزه وما يخطر بباله والحديث عن ارتفاع الأسعار وتعويم الجنيه كظاهرة معزولة حديث مبتور ومبتسر لا ينبغي إخراج هذا الأمر عن سياقه وعن جملته المفيدة والجملة المفيدة هي "ثقافة شعب" لا يريد أن يضع كل شيء في مكانه الصحيح.. يكذب في موضع الصدق ويهزل في موضع الجد.. ويشكو في موضع الشكر ويرفض ما ينبغي قبوله ويقبل ما يجب رفضه.. "شعب دمه خفيف".. هذا قولنا الدائم.. ولكن القول الصحيح عندي أن "عقله خفيف".. فاجعلوا الكلمة في سياقها وفي موضعها.. ولا تكتبوا الأشعار في ارتفاع الأسعار!