السياسيون في الأمَّة العربية. هم المسئولون عن انتشار الشائعات والقيل والقال. وهم الذين يقفون وراء التحليلات الخاطئة للأحداث والتفسيرات الخاطئة لأقوالهم.. وهم الذين يتحدثون بطريقة الفوازير والألغاز و"حزَّر فزَّر".. ويرون أن الغموض في التصريحات. يعني الذكاء. وأن هذا الغموض هو اللغة الدبلوماسية المُثْلَي. وأن السياسي المحنَّك. هو الذي يشغل الرأي العام والمحللين بتفسير ما قال وبحل فوازير كلامه. فتكون النتيجة الحتمية لغطاً وبلبلة وسوء فهم وتحليلات متناقضة ومتضاربة. وكثير من السياسيين والمسئولين العرب يسعدون بهذه البلبلة واللغط ومحاولات حل فوازيرهم.. والأدهي أن هذه الطريقة كثيراً ما تؤدي إلي توتر العلاقات بين بعض الدول العربية وتترك المجال للاعبين في المساحة الفارغة والرمادية التي تتركها تصريحات المسئولين السياسيين. وهُناك وصف دائم للتصريحات والإجابات العائمة والرمادية للأسئلة بأنها تصريحات أو إجابات دبلوماسية حتي عندما يسأل الممثل عن أهم أعماله وأقربها إليه. ويقول: كل أعمالي قريبة إلي قلبي. ولستُ نادماً علي أي منها.. يرُد السائل: هذه إجابة دبلوماسية فقد استقر في أذهاننا وعقولنا أن الدبلوماسية تعني اللف. والدوران. والكذب. والغموض. وعدم إعطاء "عُقاد نافع". والمسئولون السياسيون العرب يحاولون التغطية علي روتينية لقاءاتهم واجتماعاتهم بإثارة الغموض وبالكلام "اللي لا يودي ولا يجيب" في محاولة لجذب الناس إلي ما يقولون وإلي بياناتهم واجتماعاتهم التي انصرف عنها الجميع. ولم تعد تمثل أي قيمة. والدبلوماسية عند العرب أن تقول كل شيء دون أن تقول شيئاً.. أو أن تقول ما لا يفهمه الناس تماماً. مثل ما يسمي أدب ما بعد الحداثة. أو شعر ما بعد الحداثة. حيث إن الأديب أو الشاعر العبقري هو الذي لا ينبغي أن يفهمه أحد.. فإذا فهم الناس ما يقول. أصابه الحزن والغضب. لأن ذلك يعني أنه أديب أو شاعر عادي. وليس أديب أو شاعر النخبة.. أي أن الأديب العربي والسياسي العربي يفتخران بالغموض وبقدرتهما علي إثارة البلبلة واللغط والالتباس.. يفخرون بنفس ما افتخَر به أبوالطيب المتنبي حين قال: أَنَا الَّذِي نَظَرَ الأعْمَي إلي أدَبِي.. وأسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ أنَامُ مِلْء جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا.. ويَسْهَرُ الْخَلْقُ جَرَاهَا ويَخْتَصِمُ والمفترض أن السياسي أو المسئول السياسي يكون بين خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يقول بوضوح أو لا يقول علي الإطلاق.. فإذا أراد إخفاء أمر ما. يقول مثلاً: لا تعليق. أو لن أجيب عن هذا السؤال.. لكن طريقة الفوازير خطيرة جداً. وتفتح أبواب اللغط. والشائعات. والشعوب العربية مدمنة شائعات وأقاويل واجتهادات غبية. ولا ينبغي للسياسي المحنَّك والواعي والحريص علي الاستقرار والهدوء أن يقول كلاماً "حَمَّال أوجه" أو يحتمل عشرات التأويلات والتفسيرات. ثم بعد ذلك يهاجم مثيري الشائعات والأقاويل ومَن يحاولون حل فوازير كلامه.. ويلجأ إلي رذيلة النفي التي يتسم بها المشهد السياسي العربي.. فالمسئولون السياسيون العرب دائموا النفي والتكذيب رغم أنهم السبب الأساسي لانتشار الشائعات والأكاذيب. والبلبلة بسبب لغتهم الغامضة وكلامهم الذي يحمل ألغازاً وفوازير لا معني لها ولا قيمة. هناك دائماً مساحة فارغة يتركها كلام المسئولين السياسيين العرب.. وهذه المساحة يشغلها هواة النفخ في النار. وإشعال الأمور.. ونري كل إعلامي أو كل محلل يقول إن المسئول قال له إنه يقصد كذا وكذا. ونري آخرين يدعون القرب من المسئول. وأنهم وحدهم يفهمون كلامه.. حتي عندما ينفي المسئولون العرب ما يقال لا يصدق أحد هذا النفي.. لأننا نري بسبب غموض كلام المسئولين العرب أن النفي إثبات.. وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة. حيث لا ينفع النفي ولا يجدي السكوت.. وكل هذا بسبب السياسيين العرب. الذين يقولون كلاماً بلا معني. يُفرِّقْنَا ولا يجمعنا!!