ظلت الإسكندرية - منذ أمر الإسكندر بإنشائها في موقع قرية راقودة المطلة علي المتوسط. عاصمة للبلاد. تبدلت الأحوال عقب انتقال موقع العاصمة من القطائع والعسكر إلي موقعها الحالي المتميز بين الصعيد والدلتا. لكن الإسكندرية ظلت لمئات السنين عاصمة ثقافية للبلاد. لإطلالتها علي البحر الذي كان الصلة الوحيدة بين مصر والعالم قبل أن تتغير الصورة ببدء النقل الجوي للأفراد والبضائع. وقيام المطارات بما كان مقتصراً علي الموانيء البحرية. كيف تستعيد الإسكندرية مكانتها عاصمة ثقافية للبلاد؟ في تقدير د. محمد زكريا عناني أن الإسكندرية تفتقد الكثير مما كان. ثم اختفي. كان فيها دور نشر وصحف. آخرها أمواج منير عتيبة. ثم راحت. وكلية الآداب كانت تعني بتقديم الاحتفاليات الثقافية والندوات والأمسيات الشعرية والحفلات الموسيقية ومعارض الكتاب التي أصبحت "منظرة" وقصور الثقافة: هل تذكرون الأنفوشي؟ واحتفاليات التذوق صارت ذكري. هل الاشتغال برغيف العيش هو السبب؟ هل هو عدم الاطمئنان لبكرة. والشباب الذين يحتشدون به لا لندوة ولا دياولو. انما لحلم الهرب عبر سفينة تحملهم إلي شواطيء إيطاليا. لعلي أصل إلي جواب عن الاسكندرية مدينة العلم والفكر والفن والعطاء. عندما أمر علي الكورنيش بحثاً عن مسارح الريحاني وإسماعيل يس.. إلخ. والمكتبات التي كانت عامرة في سعد زغلول وصفية زغلول وغيرها. عفواً. أصمت الآن وأنتظر الجواب. وإن خشيت أن الناس مشغولون بلولي وكوكو وما يصرفهم عن الثقافة والمعرفة. ويجد الروائي الطبيب د. شريف عابدين أن الإسكندرية بها كل المقومات التي تجعل منها عاصمة ثقافية. فهي مدينة كوزموباليتينية. شهدت العديد من الأحداث التاريخية. وبرز فيها مشاهير الأدب العالمي. تعانقت الحضارات علي شاطيء الإسكندرية. وأثمرت العديد من المعطيات الإبداعية. واستعادة ذلك كله - بالطبع - لا يتحقق بالتمني. وانما بالعمل الجاد والمثابر الذي تتحرك من خلاله كل المؤسسات الثقافية والمثقفون في المدينة. علي أن يكون الطموح متماهياً مع ما كانت عليه الإسكندرية إلي عهود قريبة. الأدباء هم السبب! يشير الشاعر أحمد فضل شبلول إلي ظروف عمله خارج مصر في السنوات السابقة: لم أكن متابعاً جيداً للحركة الثقافية في مدينتي الإسكندرية. وعندما عدت نهائياً وبدأت أتردد علي أماكن الندوات والفعاليات الثقافية المختلفة. اكتشفت أن هناك قصوراً ما في طريق تقدم الحركة الثقافية إلي الأمام. وسبب هذا القصور هم الأدباء والمثقفون أنفسهم الذين يزداد حجم الخلاف بينهم ويتسع يوماً بعد يوم علي لا شيء. الإسكندرية بها الكثير من الأماكن الثقافية الراقية بدءاً من مكتبة الإسكندرية التي تضم الآن "فيما يتعلق بالنشاط الأدبي" مختبر السرديات وديوانية الشعر العربي. ومروراً بمركز الحرية للإبداع وقصور الثقافة: سيدي جابر والشاطبي وبولكلي والأنفوشي وغيرها. فضلاً عن متحف محمود سعيد ومتحف حسين صبحي "الفنون الجميلة" والأتيليه. ومراكز الشباب وفرع اتحاد الكتاب وغيرها وغيرها. فكيف نحلم أن تستعيد الإسكندرية مكانتها الثقافية الرائدة. وكتابها ومثقفوها متخاصمون. منشطرون. منقسمون. متحاسدون. متباغضون. كثيرو الكلام علي المقاهي. وقد اكتشفت أنه ما من كلمة تقال علي مقهي إلا وتنتقل إلي المقهي الآخر عن طريق "ولاد الحلال" مشعلي الحرائق. وقد كشفت التكريمات الرمضانية السابقة التي قدمتها الهيئة العامة لقصور الثقافة لبعض الأدباء والمبدعين عمق هذا الخلاف. فبدلاً من الالتفاف حول المكرم الذي اختارته الهيئة. انفض الكثيرون من حوله. بحجة أنه لا يستاهل هذا التكريم. وأن فلاناً أولي به. وقد أوضح مدير عام الثقافة العامة بالهيئة أن هذا التكريم هو بداية وليس نهاية. وأن الكل سيكرم علي مدي الشهور القادمة. وكل بحجم إنجازه ومشاركته في الحياة الثقافية. لكي تستعيد الإسكندرية دورها الثقافي والأدبي والإعلامي "جريدة الأهرام صدرت في الإسكندرية عام 1876. وأول عرض سينمائي كان في الإسكندرية عام 1896" يجب علي المثقفين أولاً التصالح مع بعضهم البعض. ثم التفكير في تأسيس مجلة ثقافية رصينة تعكس الإبداع السكندري في المجالات كافة. شريطة ألا تكون منغلقة علي نفسها. وأن تتفتح علي التيارات كافة. بطريقة تعكس كوزموبالتينية المدينة نفسها. وأن يكون هناك تنسيق ما بين الندوات والمحاضرات والأمسيات التي تقام بصفة شبه يومية. حتي يستفيد الكل. بدلاً من هذا التشتت والتجزؤ والتشظي في جسد الحركة الثقافية. مركزية العاصمة ويري الناقد والروائي د. أحمد صبرة أن الثقافة تعود إلي الإسكندرية عندما تعود إلي مصر أولاً. كما كانت في النصف الأول من القرن العشرين وما تلاه حتي أواخر السبعينيات. يحتاج هذا الأمر - أولاً - إلي قرار سيادي بتفكيك مركزية العاصمة. وتوزيع الأنشطة المختلفة فيها علي عدد من المدن الأخري علي غرار تجربة سويسرا. لكن المشكلة في القاهرة أن الوجه الثقافي فيها لا يمكن تجاوزه. ولا يمكن القفز علي التراكم الثقافي الذي تكون فيها. وبناء بؤرة ثقافية جديدة. أو حتي إحياء بؤرة قديمة علي غرار ما هو مطلوب للإسكندرية. لكن ما يمكن فعله هو أن تكون الإسكندرية عاصمة نوعية للثقافة في مصر. فإذا كان الوجه الإسلامي بارزاً جداً في تركيبة القاهرة الثقافية. فإن الإسكندرية يمكن أن تكون جسر التواصل بين الشرق والغرب بالوجه الهيليني الذي كان فيها. ويمكن لمكتبة الإسكندرية أن تقود هذا التشكيل من خلالها هيئات ودور نشر وصحف وقنوات تليفزيونية ومحطات إذاعية. لا أعني أن تقوم المكتبة بهذا الجهد. لكن أن تكون نقطة جاذبة لهذا التوجه. وأري أنه من غير أن تكون هيئات ثقافية فعالة ورئيسية في الإسكندرية. لا يمكن لهذا الحلم أن يتحقق. فالإسكندرية لا ينقصها المثقفون. الذين يمكن أن يحققوا حلماً تمني كلنا تحقيقه. ويرجع الروائي منير عتيبة تراجع الإسكندرية حضارياً منذ منتصف القرن الفائت. وبالتالي تراجع دورها الثقافي. إلي أسباب كثيرة. تحتاج إلي دراسة متعمقة. لكن السؤال الآخر الذي يرج نفسه: متي يعود الدور الثقافي المصري إلي المحيط العربي والافريقي بعد انحساره الكبير. والذي استتبعه الانحسار الاقتصادي والسياسي. أو تزامن كل هذا الانحسار معاً. ربما لو تمت الإجابة علي هذا السؤال. فالمعني هو العودة الحقيقية للإسكندرية. عندما يطول الركود والانكماش فسينسحب علي كل شيء. فخذوا حذركم؟ ويقترح الروائي رشاد بلال أن توزع المحافظات - ومنها الثقافة - موزعة علي محافظات مصر. وأن تنشأ فيها مؤسسات ذات فعالية للنشر والإعلام. المهم أن تقل ظاهرة المركزية التي تعود إليها سلبيات كثيرة. ويجد القاص حسن اللمعي أن الهدف يتحقق عندما تحظي الإسكندرية بمحافظ مهتم بالثقافة. ويؤمن بدور المثقف في تطوير مجتمعه. والارتقاء به. ويؤمن أعضاء الحكم المحلي بأن الثقافة جديرة بأن الثقافة جديرة بأن تحدث تطوراً في المجتمع. كذلك الحرص علي عدم تركز كل المؤسسات الثقافية في القاهرة. وإنشاء إدارات للمجلات الثقافية في المدينة. وتوفير إدارات النشر بما يعين علي تشجيع الأدباء الشباب ونشر أعمالهم. ويتحدث الكاتب والشاعر العراقي عذاب الركابي. بكلمات محملة بالحب عن الإسكندرية التي اختارها محلاً لإقامته. فهي فردوس أرضي تنبض سماؤه بكل ما هو إنساني وحضاري وإبداعي. وهي فضاء إيحاء لما يدور في خلجات النفس المبدعة. ولمن نبض قلبه موقوت علي إيقاعات أمواج بحرها. الإسكندرية مركز ثقافي وحضاري لا شك في ذلك. يضيف الركابي قوله: لكن الثقافة تشكو فقدان الجدية والمثابرة. فالإسكندرية تمتليء بالمراكز والمؤسسات الثقافية التي ترعي الجسد الثقافي. لكن العلاقات الثقافية السريعة. والمجاملات. بات علي حساب الثقافة والإبداع. وهذا ما يبطيء المشروع الثقافي المثير والجديد. وربما يؤخر الإعلان المنتظر عن أن تشرق الإسكندرية كعاصمة ثقافية. وهي جديرة بذلك. بدفء قلب وارتعاشة إصبع. ونغم روح عاشقة لهذه المدينة الضاجة بكل ما هو إنساني يهذب الروح. ويرقق القلب.