لم يطاوعني قلمي أن أكتب بالأمس عن عرابي وثورته والظلم التاريخي الذي تعرض له دون أن أكتب عن شخصية وطنية عظيمة الشأن جديرة بأرفع تيجان المجد لكنها ايضا تعرضت لظلم كبير.. ولم تحصل علي ما تستحقه من تعظيم وإجلال وتكريم في تاريخنا.. تلك هي شخصية محمود سامي البارودي رب السيف والقلم.. أول وزير مصري للحربية..ورئيس وزراء حكومة الثورة عند انتصارها.. ثم رفيق عرابي في المنفي بعد هزيمة الثورة أمام الثورة المضادة والقوي الرجعية والدول الاستعمارية. ثم هو قبل ذلك وبعده المجدد الأول والأكبر في الشعر العربي الحديث بعد مرحلة طويلة من الركود والضعف والترهل في ظل الدولتين المملوكية والعثمانية.. فهو الذي رد الروح إلي الشعر العربي وخلصه من خزعبلات التكلف والصنعة وجعله يعيش بين الناس ويعبر عنهم قبل أن يأتي دور أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومن جاء بعدهما. ولأن الحديث عن محمود سامي البارودي يمكن أن يطول بنا ويتشعب في أكثر من زاوية فسوف أكتفي هنا لضيق المساحة بالحديث عما يتعلق بدوره في الثورة العرابية التي نحتفل بزعيمها في 9 سبتمبر من كل عام. كان محمود سامي البارودي خامس خمسة يأتي ذكرهم دائماً علي أنهم رفاق عرابي.. الأول عبدالعال حلمي أميرالاي اللواء السوداني والثاني أحمد بك عبدالغفار قائمقام السواري وقد كانا الشرارة التي أشعلت الثورة عندما أصر عثمان رفقي ناظر الجهادية "وزير الدفاع" علي نقل الأول وتخفيض درجته وعزل الثاني وتعيين ضابطين من الجراكسة بدلاً منهما احتقاراً للمصريين وانسجاماً مع مزاجه التركي.. والثالث هو علي فهمي الذي فوضه الضباط مع عرابي ليكتبا عريضة المطالب للخديو توفيق تأكيداً لهويتهم الوطنية.. وأما الرابع فهو عبدالله النديم خطيب الثورة الذي ملأ الأسماع والأبصار بخطبه النارية ومقطوعاته الزجلية المحرضة علي الثورة والمطالبة بالإصلاحات السياسية والاجتماعية وتحرير الإرادة المصرية من كل دخيل. ولما كانت الدفعة الأولي للثورة طالب الضباط بعزل عثمان رفقي "التركي" وتعيين ضابط مصري مكانه.. وبالفعل تم عزله وتعيين محمود سامي البارودي وزيراً للحربية في 1 فبراير 1881 وتعيين عرابي وكيلاً له. ثم حدث أن قتل أحد الجنود المصريين عندما صدمته سيارة يقودها أجنبي فثار زملاؤه من الجنود وحملوه إلي سراي عابدين.. لكن الخديو استاء من هذا المسلك فحوكم المشاركون في المظاهرة وتم نفيهم إلي السودان.. وعندما أخذ البارودي جانب الجيش واعترض علي محاكمة الجنود لم يقبل الخديو اعتراضه فقدم استقالته. وعندما ظهرت بوادر النصر بعد وقفة عرابي الشهيرة أمام الخديو تم تشكيل حكومة الثورة برئاسة محمود سامي البارودي وتعيين عرابي وزيراً للحربية وإعلان أول دستور للبلاد يقر حق الحصانة البرلمانية للنواب وحق النواب في مساءلة الوزراء ومناقشة ميزانية الدولة وإقرارها.. لكن انجلترا وفرنسا احتجتا علي مبدأ مناقشة النواب للميزانية وإقرارها لأن ذلك يصطدم مع رقابتهما المشتركة علي الميزانية بمقتضي اتفاقية الديون.. فأرسلتا مذكرة تطلبان فيها استقالة البارودي وخروج عرابي من مصر.. وفي الوقت ذاته قامتا بإرسال قطعهما البحرية إلي شاطئ الإسكندرية. رفض البارودي مذكرة الدولتين الاستعماريتين وأقسم مع العرابيين يمين الدفاع عن البلاد والولاء للثورة.. فما كان من الخديو توفيق إلا أن قبل المذكرة فاستقال البارودي احتجاجاً.. وقام توفيق بتشكيل حكومة برئاسته. وبعد هزيمة العرابيين أمام القوات البريطانية نصبت لهم المحاكم.. واستمرت المحاكمة 15 دقيقة أعلن بعدها إعدام عرابي مع تجريده ورفاقه من الرتب والأملاك.. لكن الخديو خفف الحكم إلي النفي إلي سيلان "سيريلانكا".. وحين همت السفن بالرحيل قال البارودي: "ولما وقفنا للوداع وأسبلت.. مدامعنا فوق الترائب كالمزن.. أهبت بصبري أن يعود فعزني.. وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن". ولما فكر في مجده الضائع والظلم الذي حاق به وبزملائه كتب: "عليّ طلاب العز من مستقره.. ولا ذنب لي إن عارضتني المقادر.. فما كل محلول العريكة خائب.. وما كل محبوك التريكة ظافر".