من مواقفه التاريخية المشرفة في حياة الأمة العربية قيامه بتظاهرة على رأس الجيش المصري في ميدان عابدين لعرض مطالب الأمة على الخديو توفيق، بعد أن اتجهت إليه الأنظار "لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فو الله الذي لا إله إلا هو لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم".. بهذه الكلمات شق الزعيم أحمد عرابي الطريق إلى المجد وخلق لنفسه مكانة تاريخية لها دلالات مهمة لكل الراغبين في الحرية والاستقلال على مر التاريخ. اختاره الضباط المصريون لشجاعته ووطنيته زعيمًا للجيش ومتحدثًا باسمه، وكان حينئذ ناظرًا للجهادية أي وزير الدفاع بتسميات اليوم، فتزعم الثورة العرابية في عهد الخديوِ توفيق، ليستحق بذلك ما قاله عنه سلامة موسى: "ليس في تاريخ مصر، منذ أكثر من ألفى سنة، من خدمها بروح الشرف والوطنية مثل عرابى". ولد عرابي عام 1841 في قرية "هرية رزنة " بمحافظة الشرقية، تعلم القرآن الكريم وأرسله والده، عمدة القرية إلى التعليم الديني حتى عام 1849، ارتقى عرابي سلم الرتب العسكرية بسرعة حتي أصبح نقيبا في سن العشرين، شارك في حروب الخديو إسماعيل في الحبشة، وترقى فى الجيش إلى أن توصل إلى رتبة قائم مقام. وظهر اسم عرابي لأول مرة على الساحة حينما تقدم مع مجموعة من زملائه مطالبين الخديو توفيق بترقية الضباط المصريين وعزل رياض باشا رئيس مجلس النظار وزيادة عدد الجيش المصري، لكن الخديو لم يتقبل هذه المطالب وبدأ في التخطيط للقبض على عرابى وزملائه واعتبرهم من المتآمرين والخونة، وتنبه عرابى حينها للخطر وقاد المواجهة الشهيرة مع الخديو توفيق في سبتمبر عام 1881 وهو ما عرف "بهوجة عرابي". ومن أشهر مواقف عرابي الشجاعة أنه دخل في خصومة مع لواء شركسي في الجيش يدعى "خسرو" باشا ودفع عرابى ثمن هذه الخصومة، حيث تم تقديمه لمجلس عسكري وحكم عليه بالسجن 21 يوما، وأدت الواقعة إلى فصل عرابي من الجيش، وأورثته بغضا شديدا للشراكسة، ورفع عرابي تظلما من القرار إلى الخديو إسماعيل، وظل هذا التظلم بين النظر والإهمال ثلاث سنوات، التحق خلالها بوظيفة في دائرة الحلمية، ثم توصل إلى استصدار أمر من الخديو إسماعيل بالعفو عنه وإعادته إلى الجيش برتبته العسكرية. ومنذ ذلك التوقيت أخذ عرابي يبث في نفوس الضباط الوطنيين فكرة الاتحاد والمطالبة بحقوقهم وكان للباقته وفصاحته في الكلام واستناده إلى بعض الأحاديث النبوية الشريفة تأثير كبير في نفوس الضباط، وكانت سنة 1875 بداية دعوة عرابي الوطنية، ولما تولى توفيق باشا الخديوية رقي عرابي إلى رتبة أميرالاي عام 1879م وظل يشغل هذا المنصب حتى نشوب الثورة 1881. ومن مواقفه التاريخية المشرفة في حياة الأمة العربية قيامه بتظاهرة على رأس الجيش المصري في ميدان عابدين لعرض مطالب الأمة على الخديوي توفيق، بعد أن اتجهت إليه الأنظار، وتعلقت به الآمال لإنقاذ البلاد من مهاوي الظلم، وتحقيق أمانيها في الحياة الكريمة، وحملت مطالب القائد الثائر لمليكه، إسقاط وزارة رياض باشا وتشكيل وزارة وطنية وقيام مجلس نيابي حديث وهذه المطالب تحمل في مساعيها تطلع الشعب إلى التمتع بالحرية والعيش الكريم، لكن الخديو رد على عرابي قائلا: "كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا"، وحركت هذه الكلمات العزة والكرامة في نفس عرابى فقال: "لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لن نُورَّث، ولن نُستعبَد بعد اليوم". واستجاب الخديو لمطالب عرابي الأربعة وعزل "رياض باشا" من رئاسة الوزارة، وعهد إلى "شريف باشا" بتشكيل الوزارة، وسعى لوضع دستور للبلاد، ونجح في الانتهاء منه وعرضه على مجلس النواب الذي أقر معظم مواده، ولكن تدخل انجلترا وفرنسا عصف بهذا الحلم وتقدم "شريف باشا" باستقالته في نوفمبر 1882، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة "محمود سامي البارودي"، وشغل فيها "عرابي" منصب "وزير الجهادية" (الدفاع)، وقوبلت وزارة "البارودي" بالارتياح والقبول من مختلف الدوائر العسكرية والمدنية. واستغلت بريطانيا وفرنسا خلافا بين الخديو والبارودى حول الحياة النيابية وأمور أخرى وبعثتا بأسطوليهما إلى شاطئ الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب من الأخطار، وطالبتا بإقالة الوزارة، وإبعاد عرابي وزير الجهادية عن مصر مؤقتًا مع احتفاظه برتبه ورواتبه، لكن البارودي رفض واعتبر ذلك تدخلا في شئون البلاد. وإزاء قبول الخديو توفيق تلك المطالب قدم البارودي استقالته من الوزارة، فقبلها الخديوِ، ولكن عرابي بقي في منصبه نزولا على رغبة حامية الإسكندرية، فاضطر الخديو لإبقائه، ولكن الأمور تعقدت بعد مذبحة الإسكندرية، وتم تشكيل وزارة جديدة ترأسها "إسماعيل راغب"، وشغل "عرابي" فيها نظارة الجهادية، وعملت الوزارة برئاسة عرابي على استتباب الأمن في الإسكندرية، وتشكيل لجنة للبحث في أسباب المذبحة، ومعاقبة المسئولين عنها. وقام الأسطول الإنجليزي بضرب الإسكندرية وتدمير قلاعها، فتحرك عرابي بقواته إلى "كفر الدوار"، وأعاد تنظيم جيشه، ورفض الانصياع للخديوِ بعد موقفه المخزي، وبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديو بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل إلى "يعقوب سامي باشا" وكيل نظارة الجهادية، يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في الموقف المتردي وما يجب عمله، فاجتمعت الجمعية وأجمعوا على استمرار الاستعدادات الحربية ما دامت بوارج الإنجليز في السواحل، وجنودها يحتلون الإسكندرية، فلم يستسلم عرابي، مما تسبب في عزله عن منصبه لكن عرابي لم يمتثل للقرار واستمر في عمل الاستعدادات في كفرالدوار لمقاومة الإنجليز. عرابي رغم نشأته البسيطة فإن طموحه الكبير للخروج بمصر من عهد الاستعمار الخارجي والحكم المستبد، جعله يكتب صفحة مشرقة من تاريخ مصر، انتهت بمحاكمته من قبل القوى المستبدة في واحدة من أشهر وأسوأ المحاكمات التي عرفها التاريخ المصري الحديث. وبعد 70 عامًا قضى منها عرابي 30 عامًا منفيًا خارج وطنه تارة، وداخل وطنه تارة أخرى توفي عام 1911 في القاهرة لتنتهي بذلك رحلة بطل ظل صامدًا في وجه الظلم والذل.