أنذرت الاحتلال الإنجليزي.. وواجهت عبد الناصر في موقعة "التأميم" انتقدت السادات ففتح المعتقلات للصحفيين.. ونجحت في وقف مخطط مبارك ل"التركيع"
"الصحافة" مهنة عريقة عرفها الفراعنة المصريون منذ أكثر من 5 آلاف عام قبل الميلاد فوثقوا لهذا الفن في التواصل الاجتماعي ووضعوا له القواعد والأساليب فدشنوا أقدم صحيفة عسكرية في التاريخ نقشت على الحجر من وجهين وأشرف على تحريرها من يدعى "بتاح" وتم توزيعها على قادة الجيش وعدد من الحكام في 100 نسخة كطبعة أولى وثقت على جدران المعابد. وبعد عقود طويلة من عصور الظلام والاضمحلال التي شهدتها الدولة المصرية القديمة وصولًا إلى عصر الدولة الحديثة ومطلع القرن العشرين شهدت الصحافة المصرية تطورات جذرية بمختلف الأنظمة التى توالت على البلاد. وبعد كفاح ومعارك خاضها الأساتذة الأوائل للصحافة المصرية قبل 100 عام في مواجهة الأنظمة السياسية حينها بهدف إنشاء كيان نقابي يجمع أبناء المهنة تحت تكتل يحمي حرية الصحافة ويصون بلاط صاحبة الجلالة، ويرسخ للدور الوطني والتنموي للقلم في النهوض ببلادنا، حيث يتحول القلم في وقت الحرب إلى سلاح تأثيره فتاك على العدو ربما أقوى من الأسلحة الحديثة مهما تطورت، وفي وقت السلم يكون سيفًا مسلطًا على الفاسدين لحماية مدخرات الشعب ومدافعاً عن حقوقه في جميع المجالات. تأسيس النقابة في 31 مارس 1941 تكللت جهود الرعيل الأول من الصحفيين المصريين بالنجاح وتم تأسيس نقابة الصحفيين بعد محاولات استمرت لعشرات السنين إلى أن صدر القانون رقم 10 لسنة 1941 بإنشاء نقابة الصحفيين المصريين وتشكيل مجلس إدارتها المؤقت. وتوجه محمود أبو الفتح - نقيب الصحفيين حينها- إلى جهات الاختصاص في الدولة لطلب قطعة أرض فضاء مجاورة لنقابة المحامين لإقامة مبنى النقابة عليها، لكنه علم أنها مملوكة للقوات المسلحة البريطانية وقد أنشأت عليها خياما يقيم فيها الناقهون من جرحى الحرب العالمية الثانية. وقام مصطفى النحاس باشا -رئيس الوزراء حينها- بإصدار أمر بتخصيص قطعة الأرض المجاورة لنقابة المحامين ليقيم عليها الصحفيون نقابتهم إلا أن مساعي فكري أباظة -نقيب الصحفيين في ذلك الحين- عام 1944 لم تكلل بالنجاح لتنفيذ أمر رئيس الوزراء، لأن جهات الاختصاص في الدولة لم تكن قادرة على أن تأمر القوات المسلحة البريطانية بالجلاء عن هذه الأرض.
معركة الملك وفي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بدأت معارك النقابة مع حكومة "الوفد" حينها تحت حكم الملك فاروق، وطرح النائب الوفدي إستيفان باسيلى، مشروع قانون بحظر نشر أخبار السرايا، أو أحد أفراد الأسرة الملكية، إلا بعد خاتم من الديوان الملكي بهدف وضع قيود على الصحافة والصحفيين، الأمر الذي دفع عددًا كبيرًا من أعضاء البرلمان لرفضه، حتى اضطر باسيلى إلى سحبه والاعتذار للصحفيين.
تأميم عبد الناصر وخاض الصحفيون معارك مع نظام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، حيث واجهوا تأميم الصحف بمقتضى القانون رقم 156 لسنة 1960 المسمى بقانون "تنظيم الصحافة"، وكان هناك رقيب من الدولة يتحكم في كل شيء تنشره الصحف. وعن هذه الفترة يقول أستاذ الإعلام، حسين أمين، في بحث بعنوان "وضع الإعلام في مصر": "سنة 1954، حلّ مجلس قيادة الثورة الحاكم، مجلس نقابة الصحفيين، وفوّض وزير الإرشاد القومي، صلاح سالم، تشكيل لجنة تحّل محلّ هذا المجلس بإدارة ضباط من مجلس قيادة الثورة". وفي عام 1960، أمّم الرئيس جمال عبدالناصر الصحافة، لتصبح أداة دعائية في يد النظام الحاكم تمجّد إنجازات الرئيس، ونجاحات النظام الاشتراكي. وانقلب عبد الناصر، علي إحسان عبد القدوس رغم أنه أحد الداعمين الأقوياء لحركة الضباط الأحرار، ولحقه محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين في مصر إثر مطالبته بعودة الجيش لثكناته بعد خلاف مجلس قيادة الثورة مع محمد نجيب، وكانت الطامة الكبرى هي الخلاف الأبرز حول مؤسس أخبار اليوم - الصحفي مصطفى أمين - والذي حُكم عليه بالمؤبد في قضية اتهامه بالجاسوسية للولايات المتحدةالأمريكية، قبل أن تعاد محاكمته مرة أخرى خلال عهد السادات ويحصل على البراءة.
معركة السادات في عام 1977 أبدى الرئيس الراحل محمد أنور السادات عزمه تحويل نقابة الصحفيين إلى نادٍ بعد الهجوم عليه من عدد من الصحفيين المقيمين بالخارج، وتدخل إليه حافظ محمود شيخ الصحفيين وأول عضو بمجلس إدارة النقابة وخاطب السادات مذكرًا له أن هناك وثيقة موقعة منه يقر فيها بدور الصحافة في ثورة 23 يوليو، قائلًا: "ثم تأتي الآن أمام كاميرات العالم وتقول إن الصحافة ضد الوطن، فكيف تناقض نفسك يا سيادة الرئيس؟!". وتابع حافظ في خطابه: "الصحفيون الذين كتبوا ضد مصر، لا يتعدون نسبة أكثر من 2% أو 3 % من أعضاء النقابة، فلماذا أنت غاضب يا ريس؟!" فرد السادات: "مش عارف اللي كتبوا يا أستاذ حافظ؟"، وعقب حافظ: "أنا لما سبت النقابة تركت لهم ميثاق الشرف الصحفي" ثم راح حافظ محمود يسرد تفاصيل من هذا القانون حتى صاح السادات: "أهو أنا عايز نصف ده.. ربع ده". وحسم شيخ الصحفيين، الأمر قائلا: "نعمل مجلس يحل مشاكل الصحفيين" ليتأسس المجلس الأعلى للصحافة، فابتسم السادات قائلا: "شايفين شيخ الصحفيين حلها إزاي"، ودوى التصفيق الحاد وانتهى الاجتماع فلحق حافظ محمود وإحسان عبدالقدوس، بالسادات، وكان إحسان ظريفًا حين سأل الزعيم محمد أنور السادات، عن حكاية شيخ الصحفيين دي؟ فقال الزعيم محمد أنور السادات: "أنت مش فلاح زي أنا وحافظ يا إحسان.. في كل شغلانة عندنا ليها شيخ هو كبيرهم" فقال حافظ محمود ضاحكا: "بس أنا كده أول عجوز بقرار جمهوري". وأفرج السادات، عن الصحفيين المعتقلين إبان العهد الناصري، ولكن سرعان ما كرر ممارسات سالفه، عقب اتفاقية "كامب ديفيد" رغبته في تحويل مبني النقابة لنادٍ اجتماعي، ثم قيامه باعتقال سبتمبر، والتي شهدت الزج بعدد كبير من الصحفيين في غياهب السجون أبرزهم الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل.
معركة مبارك افتتح المخلوع محمد حسني مبارك عهده البائد بعبارة شهيرة معلنًا هجومه على الجماعة الصحفية، قائلًا: "دول شوية لبط فاكرين نفسهم عارفين كل حاجة". وحدثت انتفاضة الصحفيين الكبرى عام 1995 بعد أن تم طرح القانون رقم 93 لسنة 1995، والذي تضمن تغليظ العقوبات في جرائم النشر وألغى ضمانة عدم الحبس الاحتياطي للصحفيين لتنتفض النقابة في مواجهة القانون. وانعقدت الجمعية العمومية في 10 يونيو من العام نفسه معلنة رفض القانون في وقائع أطلق عليها "الانتفاضة الكبرى" واختارت بعدها الجمعية العمومية هذا اليوم عيدًا سنويًا لحرية الصحافة، حيث نشر الصحفيون آنذاك قائمة سوداء بأسماء النواب الذين تزعموا تمرير القانون، وتمت إقامة جنازة رمزية شيعوا فيها حرية الصحافة. وتوالت مبادرات الغضب باحتجاب الصحف الحزبية، واعتصام كامل محرريها بحديقة النقابة، وعقدت القوى السياسية والأحزاب مؤتمرا حاشدا بمقر حزب الوفد، حتى انتصرت الجماعة الصحفية وتراجع البرلمان في القانون. ونجح الصحفيون في معركتهم أمام سعى "مبارك" لمنع حصول الصحفي على أي معلومات وتغليظ العقوبات ليعيد النظر وتعود الأمور إلى طبيعتها بعد إسقاط لقانون لسنة 1995 بعرق وجهد الرجال، لأنه سقط رغم أنف الحكومة وتم إسقاط العقوبات المغلظة والسالبة للحرية. وفي عام 2006 عاود البرلمان، بقيادة أحمد عز أمين السياسات بالحزب الوطني المنحل، الذي قاد لوبي لإقرار الحبس في قضايا النشر، واجتمعت عمومية الصحفيين، وقاد المظاهرات نقيب النقباء كامل زهيري على مقعد متحرك واحتجبت 26 جريدة عن الصدور، تضامنًا مع موقف النقابة، وبعث نقيب الصحفيين- جلال عارف حينها رسالة إلى الرئيس الأسبق حسني مبارك مطالبا بالتدخل، وقرر أعضاء مجلس النقابة الدخول في اعتصام مفتوح انضم إليه بعض أعضاء الجمعية العمومية. وفي يوم الاثنين الموافق ال 10 من يوليو عام 2006 شهد كلمة للدكتور مفيد شهاب، أمام أعضاء مجلس الشعب أثناء مناقشة المشروع في الجلسة الثانية، قائلًا: "الرئيس مبارك بحكم سلطاته الدستورية وبعد متابعته واهتمامه الكبير للمناقشات المطولة التي دارت حول مشروع القانون قرر إلغاء المادة التي تقضى بالحبس والغرامة في جرائم الطعن بالقذف في الذمة المالية للموظف العام".
مرسي وشهدت فترة حكم مرسي، أزهى عصور حرية الصحافة في تاريخ مصر، حسب معارضين لنظام الإخوان، حيث قال السفير عمرو موسى، وزير الخارجية الأسبق ومؤسس بجبهة الإنقاذ ضد "مرسي" في تقرير عرضته "الأهرام":"لا ننكر أو نتجاهل أنه توجد مساحات حرية كبيرة بالإعلام، فالرئيس والحكومة يتم انتقادهما في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بالإضافة لفيس بوك وتويتر، ومن غير الموضوعية القول إنه لا توجد حرية تعبير بالشارع فالمظاهرات تنطلق في كل أرجاء مصر، والكل يعبر عن رأيه بحرية". ونفى الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، ما يتردد عن تقييد حرية الإعلام والإعلاميين في عهد مرسي، قائلًا: "مصر تعيش الآن أزهى عصور حرية الإعلام والصحافة بعهد الرئيس محمد مرسي؛ فالرئيس يُنتقد بشكل عنيف كل يوم بالفضائيات، وهو ما لم نعتده بعصور سابقة". وخلال حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي انتفض الصحفيون بإعلان حجب الصحف الثلاثاء 12 أبريل عام 2012 اعتراضًا على الإعلان الدستوري الذي أصدره في 22 نوفمبر. ودعت النقابة إلى وقفة احتجاجية ومسيرة إلى ميدان التحرير للانضمام إلى المحتجين المعتصمين الذين يرفضون الإعلان الدستوري، وتشكيل الجمعية التأسيسية التي وضعت مسودة الدستور.
عدلي منصور وشهدت سلالم نقابة الصحفيين خلال رئاسة المستشار عدلى منصور المؤقتة للجمهورية، سلسلة تظاهرات مؤبدة للنظام وأخرى عمالية. معركة الإرهاب وفي مطلع حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2015، أعلنت نقابة الصحفيين رفضها التام لعدد من المواد التي تم إقرارها في مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" واصفةً القانون بأنه يعيد من جديد القيود التي ناضلت الجماعة الصحفية لإلغائها عبر عقود من تاريخها، وتم تتويج هذا النضال في نصوص دستور 2014 وشددت النقابة على أن مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" به العديد من المواد التي تخالف بشكل صريح المادة 71 من الدستور. وطالبت النقابة المسئولين في الدولة، أن يعيدوا قراءة نص المادة 33 من مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" وهى المادة التي تنص على أنه "يعاقب بالحبس الذي لا تقل مدته عن سنتين، كل من تعمد نشر أخبار أو بيانات غير حقيقية عن أي عمليات إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنية، وذلك دون إخلال بالعقوبات التأديبية المقررة في هذا الشأن". ونجح الصحفيون في تعديل نص المادة ومنع الحبس للصحفيين والاكتفاء بالغرامة المغلظة في حال نشر أخبار كاذبة وإثبات ذلك، ولا زالت النقابة منبر الحرية وقلعتها للمطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ويظل شعاع النور هو القلم الذي يكتب فيغير الواقع وينمي البلاد ويكشف الفاسدون والفساد.
أزمة النواب.. واعتذار عبد العال وتسبب اعتداء نائب بالبرلمان في فبراير الماضي على أحد الزملاء في غضبة النقابة التي قررت مقاطعة تغطية جلسات المجلس، إلا أنه سرعان ما أصدر الدكتور على عبدالعال رئيس مجلس النواب، بيانًا قدم خلاله اعتذاره واحترامه للصحفيين وناشدهم عدم مقاطعة الجلسات. وجاء في اعتذار رئيس النواب: "يعز علينا جميعاً ما تناقلته وسائل الإعلام من دعوة نقابة الصحفيين التى نجلها ونحترمها بما تتضمنه من كوكبة عظيمة من رجال صاحبة الجلالة، للصحفيين العاملين داخل البرلمان من التوقف عن تغطية أعماله فوراً لحين التحقيق فى واقعة الاعتداء على أحد الزملاء ". وتابع: "ونحن من جانبنا نجل ونحترم نقابة الصحفيين التى تمثل جموع صحفيي مصر الذين نعترف بدورهم الوطنى فى نقل الحقائق إلى الشعب، والذين يسهمون بدور عظيم فى إثراء الحياة السياسية وينقلون بكل أمانة واقتدار نبض الشعب إلى المجلس، ودور البرلمان فى تحقيق آماله وطموحاته". وأردف: "نحن من جانب آخر لن نألو جهداً فى تسهيل مهام الصحفيين فى تغطية أعمال المجلس ولجانه، والتعاون مع نقابتهم السامقة من أجل تذليل أى عقبات تحول دون بلوغ الأهداف التى نرنو إليها جميعاً، فالصحافة بلا شك هى مرآة عاكسة لتاريخ وحاضر ومستقبل مصر، وإننا لا نرضى بأى صورة من الصور أى اعتداء أو توجيه أى إهانة لأبنائنا من حملة مشاعل الثقافة والتنوير، راجين السيد الأستاذ يحيى قلاش نقيب الصحفيين، العدول عن هذا القرار، وسوف نعمل سوياً على التغلب على كل من شأنه تغذية الخلف أو الخلاف".
اقتحام النقابة وفي مطلع الشهر الجاري، وقبل يومين من الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، وفي واقعة هي الأولى في تاريخ نقابة الصحفيين، قامت قوات الشرطة باقتحام مقر النقابة وإلقاء القبض على الصحفيين عمرو بدر ومحمود السقا، اللذين كانا معتصمين بالمبنى احتجاجاً على مداهمة قوات الأمن لمنزليهما بعد إصدار نيابة أمن الدولة العليا قراراً بضبطهما وإحضارهما، بتهمة "التحريض على التظاهر" في الاحتجاجات الرافضة للتنازل عن بجزيرتي "تيران" و"صنافير". وأعلنت النقابة في جمعيتها العمومية التي عقدت يوم الأربعاء 4 مايو الجاري، ردًا على هذا الاقتحام بدء اعتصام مفتوح لأعضائها في مقرها، لحين إقالة وزير الداخلية، ولا يزال الاعتصام قائمًا فيما تم تسويد الصفحات الأولى بالجرائد حدادًا على حرية الصحافة الأحد الماضي ومطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بتقديم اعتذار ومجلس وزرائه. ولم تحسم حتى الآن موقعة اقتحام النقابة، حيث لم يخرج أي مسئول من الحكومة لتقديم الاعتذار أو التعليق على الأزمة الحالية ولا زال الصحفيون ينتظرون نتائج تصعيدهم ضد وزارة الداخلية.