على طريقة "الربيع العربي" اندلعت مظاهرات الغضب الشعبي في العاصمة الروسية موسكو ومدينة بطرسبرج، احتجاجًا على تزوير انتخابات "الدوما" التي أجريت في 4 ديسمبر، وشابتها عمليات تزوير فاضحة، تناقلتها مصادر المعارضة الشعبية على شبكات التواصل الاجتماعي، كما شهدت عليها وسائل إعلام عالمية، مما أجج الغضب العام، ودفع إلى تنظيم تظاهرات شارك فيها ما يقرب من 100 ألف متظاهر، وقابلها الأمن الروسي بقوة، حيث بلغ عدد المعتقلين أكثر من 1000 شخص، وهي الأحداث التي مثلت أكبر شرخ يلحق بشرعية الحكم في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينات القرن الماضي. ضربة قوية لبوتين وفي ضربة قوية لحزب "روسيا الموحدة" بزعامة فلاديمير بوتين وميدفيديف، كشفت مجموعة "المواطن المراقب" الروسية المستقلة لمراقبة الانتخابات أن حزب "روسيا الموحدة" حصل فقط على 29.8% من الأصوات، وهو ما يقل بنحو 20 % عن النتيجة التي أعلنتها السلطات الرسمية، وهي 50 %، كما كشفت المجموعة المستقلة أن حزب "يابلوكو" الليبرالي حصل على 14 % من الأصوات، وهي نسبة تؤهله للحصول على مقاعد في البرلمان، على العكس من النتائج الرسمية، التي قالت: إن الحزب حصل على.33% فقط، بما لا يؤهله لدخول مجلس الدوما، وبالنسبة للحزب الشيوعي، قالت مصادر المجموعة: إنه حصل على 22.6 % وليس 19.6% وفقًا للأرقام الرسمية. غير أن تظاهرات الغضب التي اندلعت في روسيا مؤخرًا، وطالبت برحيل فلاديمير بوتين، جاءت أيضًا على خلفية حالة استياء شعبي كامنة بسبب اقتراب موعد تطبيق "التوريث الثنائي" بين بوتين والرئيس الروسي ميدفيديف، حيث اتفق الجانبان على تبادل المناصب مجددًا، والبدء في ترشيح بوتين رسميًا، تمهيدًا لانتخابات الرئاسة المرتقبة في مارس 2012. وفي تحدٍ واضح لهذه الخطوة، أعلن ميخائيل بروخوروف، وهو من أغنى أغنياء روسيا، عزمه على الترشح في انتخابات الرئاسة القادمة. الربيع الروسي فجّر حادث تزوير انتخابات مجلس النواب «الدوما» غضب الشعب الروسي، معلنًا استياءه البالغ على الطبقة السياسية والنظام السياسي الروسي، الذي لا يليق بحال من الأحوال بدولة عظمى، تمتلك مقدرات قطب دولي عملاق، ولكنها تئن تحت وطأة ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية، تطابق تقريبًا ظروف دولة من دول العالم الثالث. وفي يوم السبت 10 ديسمبر، دق جرس الإنذار لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين، إيذانًا ببدء نداء الرحيل، حيث انطلقت المظاهرات من أقصى الشرق الروسي حتى العاصمة موسكو، وهي الأضخم من نوعها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن الماضي، وعندما امتلأ ميدان "بلوتنايا بلوشاد" بالقرب من الكرملين بالمتظاهرين، تحدث الكثيرون عن تكرار سيناريو ميدان"التحرير" المصري، أيقونة الثورة المصرية في 25 يناير، والتي انتهت بسقوط الطاغية حسني مبارك. وأيضًا على طريقة "الربيع العربي" كان الحشد الشعبي الروسي يجري عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي, (فيس بوك وتويتر ويوتيوب)، بالرغم من أن عددًا من منظمي تظاهرات روسيا أكدوا أن "ثورة" روسيا سيصنعها «الشارع وليس شباب الانترنت»، في إشارة إلى اتساع نطاق الظروف السيئة التي تدفع الروسيين للخروج والإعراب عن حالة الجمود والضيق والاكتئاب السياسي، من طول فترة مكوث نفس الشخصيات في نفس المناصب، بدون أي اعتبار لحالة الناس، ورغبتهم في التغيير. وبالرغم من البرد القارس والصقيع الروسي (تحت الصفر)، فقد تضاعفت حرارة النداءات الشعبية ضد بوتين، وضد مزوري الانتخابات، مطالبين بالمحاكمة والسجن للفاسدين ومن يتلاعبون بإرادة الشعب الروسي، وتحديدًا حزب "روسيا الموحدة" بزعامة بوتين، الذي سرق انتخابات الدوما، وأيضًا على طريقة الأمن العربي، اتسع نطاق العنف الرسمي، ونشر العربات والمصفحات في شوارع المدن الروسية، مثل خباروفسك، وفلاديفستوك، وسيبيريا والأورال، وكراسنويارسك، وتومسك، وحلقت الطائرات في سماء موسكو، واعتقل الأمن الآلاف من المتظاهرين، واحتلوا الميادين التي كان المتظاهرون على وشك الاعتصام فيها، فيما دعا مجلس حقوق الإنسان الروسي إلى إعادة الانتخابات إذا ثبت تعرضها للتزوير، وبدا الموقف في صورته النهائية موزعًا بين احتمالين، إما أن يختار فلاديمير بوتين التصعيد الأمني وتشديد القبضة الحديدية في مواجهة الغضب الشعبي وزيادة مساحة العنف الرسمي، وإما اختيار التراجع، والمهادنة مع المطالب الإصلاحية الشعبية، وفي هذه الحالة فإن مستقبله السياسي سيبقى رهنًا بإرادة الشعب الروسي، الذي يطالب الآن بالتغيير الجذري في صيغة الحكم والإدارة السياسية لدولة روسيا. ومن الملاحظات الجديرة بالاعتبار، أنه وفقًا لنتائج الانتخابات، حتى بعد تزويرها، فقد انخفض نصيب حزب بوتين المتهم بالفساد والتزوير من مقاعد الدوما من 70 % إلى 53 %، أي أنه فقد أغلبية الثلثين التي كانت تمنحه حق التلاعب في الدستور دون منازع، هذا، فضلًا عن انخفاض شعبية بوتين نفسه إلى أدنى مستوى لها منذ سنوات، ومن الغريب أن نوعًا من "التصويت العقابي" انتشر في الانتخابات الأخيرة، ويا للمفارقة، أنه جاء لصالح الحزب الشيوعي، فقط، من أجل التخلص من القائمين على الحكم حاليًا، وتحديدًا، فلاديمير بوتين، وميدفيديف. احتمالات الثورة بغض النظر عما إذا كان "الربيع العربي" قد وصل إلى روسيا فعلًا، أو أن ما يجري في المدن الروسية حاليًا هو "شتاء روسي" بخصائص تعكس نمطًا من الانتفاضات المطالبة بالإصلاح السياسي، فإن الجديد الذي يتجسد في روسيا حاليًا هو ضخامة التظاهرات التي تعكس درجة عارمة من الغضب المتراكم بين الروسيين. صحيح أنه عبر سنوات منذ عام 2000 شهدت البلاد حالات من المعارضة ومظاهرات الاحتجاج لأسباب سياسية أو اقتصادية، غير أن المعارضة الروسية عموما تتسم بالضعف والتشتت، وسرعان ما كان يخبو بريقها، ويطوي النسيان القائمين عليها، ومنهم بطل الشطرنج جاري كاسباروف، بدون أن تحقق أي نتائج على الأرض، ومع ذلك، فإن الشعب الروسي يظل مختزنا لحالة الاحتجاج الموجهة أساسا لجهاز الدولة الذي فشل في إنتاج النموذج الديمقراطي الحقيقي الذي يليق بالشعب الروسي، وبدولة كبرى مثل الدولة الروسية. وعبر سنوات، منذ انهيار الجهاز الشمولي السوفييتي، مرت البلاد بمسيرة من الأحزاب السلطوية، بدءًا بحزب «روسيا بيتنا» الذي فشل في انتخابات 1993 التي فاز فيها الحزب الليبرالي الديمقراطي بالأغلبية، وحزب "خيار روسيا" الذي اكتسحه الشيوعيون في 1995 ليأتي حزبا "الوحدة " و "روسيا وطننا" اللذين سعى بوتين لدمجهما في حزب "روسيا الموحدة" وحزب "القضية العادلة" الذي وقف وراءه ميدفيديف في محاولة رعاها بوتين، من أجل خلق نظام حزبي ثنائي على النمط الأمريكي، مثل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، غير أن حزب "القضية العادلة" فشل فشلا ذريعا في الانتخابات الأخيرة. كذلك، فإن الصيغة الحزبية الحالية في روسيا لم تحقق للروسيين ما تمنوه لنظامهم السياسي، فالنظام يقوم على التزييف، والتلفيق، وتوريث الحكم، وتشغيل ترزية القوانين لينسجوا نظاما على «مقاس اللصوص ونصابي الحزب الحاكم» كما يقول المعارضون، وهكذا، أراد النظام مد فترة الرئاسة من أربع سنوات إلى ست سنوات، ومد الدورة البرلمانية من أربع إلى خمس سنوات، ليظل الفساد المالي والإداري ينخر في جسد الاقتصاد والدولة على حساب حياة ومستقبل المواطن الروسي. وفي هذه الحالة، فإنه لا مجال للتساؤل عما إذا كان عنصر "البؤس الاجتماعي والاقتصادي" هو السبب الحقيقي وراء احتمالات انفجار الثورة في روسيا، صحيح أن نسبة البطالة تصل إلى 10 %، وهناك 13 % يعيشون تحت خط الفقر، ويبلغ متوسط دخل الفرد الروسي حوالي 16 ألف دولار سنويًا بحسابات عام 2010، وتتمتع روسيا بموارد طبيعية هائلة، وهي منتج ومصدر رئيسي للنفط، وكل ذلك يفسره البعض على أنه لا يعني على الإطلاق أن العامل الاقتصادي وحده سيكون وراء انفجار ثورة شعبية في بلد يتمتع فيها الغالبية بمستوى معيشي مناسب. لذلك، فإنه يمكن القول: إن احتمالات الثورة القائمة في روسيا تعود لأسباب سياسية بحتة، وتتركز على الطلب الديمقراطي، مثلها مثل ثورات "الربيع العربي"، وكما فجرت جريمة تزوير انتخابات 2010 الثورة في مصر، فإن تزوير انتخابات ديسمبر 2011 في روسيا، فجرت غضبا شعبيا مرشحا للتصعيد، لما تمثله جريمة تزوير إرادة الشعب من "إهانة" سافرة لا يتقبلها ولا يتحملها الجمع الوطني بحال من الأحوال. رجل روسيا القوي على الرغم من قوة الحركة الاحتجاجية في روسيا حاليًا، والتوقعات التي تشير إلى أنها مرشحة للتصاعد، خاصة مع اقتراب انتخابات الرئاسة في مارس القادم، غير أن ذلك لا ينفي أن شعبية فلاديمير بوتين لا تزال عند نسبة 61 %، فبوتين «59 سنة» لا يزال من وجهة نظر عدد كبير من الروسيين رجل روسيا القوي، الذي أقالها من عثرتها بعد الرئاسة الفاشلة لبوريس يلتسين في التسعينيات، وقد حقق بوتين لروسيا نقلة اقتصادية، وارتفعت مستويات المعيشة، وتعامل العالم مجددا مع روسيا كقطب دولي كبير يعادل القوى العالمية؛ الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. وعندما اندلعت مظاهرات الغضب العارمة احتجاجا على تزوير الانتخابات، رافعة شعار "روسيا بدون بوتين" لم يجد رجل المخابرات الروسية القوي بُدًّا من الاعتراف ضمنيا بأنه سيحترم وجهات نظر المتظاهرين، وبعد ذلك طلب الرئيس ميدفيديف إجراء تحقيقات حول تزوير الانتخابات. غير أن موقف السلطة الروسية بوجه عام "أظهر التحدي" لمطالب المحتجين التي تركزت في إلغاء الانتخابات، وإعادتها، ومحاسبة المسئولين عن التزوير. ثم رفض بوتين وميدفيديف الاعتراف بذلك؛ على اعتبار أن نسبة التزوير لم تتعد.5%، وهو ما لا يؤثر على شرعيتها. وربما يعتمد بوتين في صموده على تلك الفئة من الروسيين الذين يرون أن بلادهم لا تزال في حاجة إلى "الرجل القوي " أكثر من حاجتها إلى الديمقراطية. المصدر: الإسلام اليوم