شهدت روسيا يوم السبت الماضي مظاهرات عارمة هي الأكثر عدداً والأشد والأعنف من حيث المطالب منذ ان تولي بوتين مقاليد السلطة في روسيا ، فقد كسر الشعب الروسي حاجز الخوف من السلطة وخرج ويطالب برحيل رئيس الوزراء بوتين عن السلطة ، كما طالبوه بعدم ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة في مارس 2012 واتهموه بالفساد وبأنه أحاط نفسه بالفاسدين ، ولم تغب المطالب الاجتماعية عن المشهد فقد طالبوا بتقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء. المظاهرات اندلعت عقب إعلان نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت في الرابع من الشهر الجاري وحصد فيها حزب روسيا الموحدة 238 مقعداً من أصل 450 هي عدد مقاعد مجلس الدوما أو البرلمان الروسي ، وهو ما اعتبره المواطنون والقوي السياسية الروسية تزويرا فاضحا لإرادة الناخبين ، مشيرين إلي عمليات تزوير واسعة حدثت في العاصمة موسكو حيث يتهمون حزب روسيا الموحدة بسرقة 17% من الأصوات فيما يقول آخرون إن حزب رئيس الوزراء بوتين حصل علي المركز الرابع في التصويت الألكتروني في الشرق الأقصي الروسي، بينما حصل الحزب الشيوعي علي المركز الأول بفارق كبير. وبنظرة بسيطة علي تطور الأحداث نجد أن السبب المباشر للمظاهرات هو نتائج الانتخابات في حين رفع المتظاهرون شعارات تطالب برحيل بوتين إلي جانب المطالبة بإعادة الانتخابات البرلمانية من جديد ، لكن في اعتقادي الشخصي أن أساس تفجر الأوضاع التي كان من الممكن أن تنفجر عند انتخاب ميدفيديف رئيساً قبل أربع سنوات ولكن سيد الكرملين بوتين آنذاك تمكن من إجهاضها خاصة أن هذه الانتخابات التي كانت نتيجتها معروفة سلفاً جرت بعد حدوث ثورة البرتقالي في أوكرانيا ، وثورة الورود في جورجيا وكانت روسيا مستهدفة لحدوث ثورة ملونة. حاولت وسائل الاعلام الروسية بقدر المستطاع تجاهل المظاهرات التي تجاوز عددها 50000 الف في موسكو وحدها بخلاف قيام مظاهرات في خمسين مدينة روسية اخري ، إلا أنها في نفس الوقت نظمت حلقات نقاشية تحذر المواطنين من الفوضي وعدم الاستقرار وأشارت إلي احتمال قيام حرب أهلية بل ذهب الإعلام إلي أبعد من ذلك حيث بدأ يبث تحقيقات تليفزيونية عن دول الربيع العربي وكيف يعيشون في فقر وبطالة وبؤس وعدم أمان وركزوا علي قطاع السياحة المصري وما ألم به من خسائر نتيجة الثورة، وفي نفس الوقت طالب البعض بمكافحة الفساد ، وتقليص الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء وتحسين ظروف معيشة المواطنين ذوي الدخل الثابت. النظام في روسيا قائم علي توازنات من الصعب الإخلال بها ، والديموقراطية القائمة علي تداول السلطة غير الموجه والمحسوب وهي الديموقراطية علي النسق الأوروبي من الممكن أن تطيح بالاستقرار الهش للنظام الفيدرالي الروسي ، وتعيد الاقتصاد الروسي للمربع الأول فيما يخص توزيع الثروة والخصخصة من جديد وهو الأمر الذي من الممكن أن يصيب الاقتصاد الروسي بالشلل التام ، ناهيك عن طموح بعض الجمهوريات للاستقلال مثل بعضها في القوقاز واخري في الفولجا وهي من المناطق ذات الأغلبية المسلمة والغنية بالنفط ، وهذا تحديدا ما دفع بوتين للتأسيس لنظام جديد لانتخاب المحافظين وحكام الأقاليم بحيث تكون موسكو مسيطرة عليهم وألغيت الانتخابات المباشرة في الأقاليم الروسية . و لا يمكن عزل ما يحدث عما يجري في العالم فمنذ فترة نصب حلف الاطلنطي منظومة دفاع مضادة للصواريخ في بعض الدول المتاخمة لروسيا منها بولندا وتركيا وهو الامر الذي اثار حفيظة روسيا فقررت الرد بنصب صواريخ مضادة في مناطق قريبة من الحدود مع أوروبا ، كما أن الموقف الروسي من البرنامج النووي الإيراني وموقفها من الأزمة السورية أثار حفيظة الغرب والولايات المتحدة ، وربما تكون المظاهرات نوعا من قرصة الأذن للزعيم الروسي بوتين العازم بقوة علي العودة للكرملين مع انتخابات عام 2012 وذلك بهدف حثه علي تغيير موقفه من هاتين القضيتين إيران وسوريا لأنهما تمثلان حجر الزاوية في الحفاظ علي أمن إسرائيل ، خاصة مع ثورات الربيع العربي التي جعلت امن الدولة العبرية في مهب الريح. وأيا كانت الأسباب فإن الشعب الروسي قد ملَ لعبة الديموقراطية المقننة والمحكومة والموجهة بحيث أصبح الشعب يعرف من سيحكمه خلال الإثني عشر عاما القادمة بل يعرف نواب البرلمان ومرشحو الرئاسة الذين سيخسرون ويعرفون من الفائز في الانتخابات الرئاسية ، الشعب قد ملَ حتي وإن كان سيد الكرملين القادم هو بوتين ، الذي وصل للحكم في روسيا وهي تتداعي وتتصدع من حرب في الشيشان وتفجيرات للمنازل في موسكو ، واستطاع إنقاذ روسيا من الانهيار ، إلا أنه في نفس الوقت خلق مجموعات من المتزلفين والمنافقين الذين استفادوا وكونوا ثروات وهم علي استعداد لمغادرة روسيا مع أول بوادر ثورة أو هبة شعبية وما سيتركه هذا علي اقتصاد يحاول البقاء علي السطح في ظل أزمة مالية عالمية عاتية . و ربما سيكون الأحري بالسيد فلاديمير بوتين أن يعيد النظر في خططه في المستقبل القريب ، بما في ذلك مسألة الترشح للرئاسة في مارس القادم لأن موقفه سيكون ضعيفاً ولن تمر هذه الانتخابات مرور الكرام ، والخطورة علي بوتين لن تأتي من الحزب الشيوعي الذي احتل المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية بل من السيد سيرجي ميرونوف زعيم الحزب الذي يسمي روسيا العادلة ويمثل يسار الوسط ، ومن سخرية القدر أن بوتين هو الذي أنشاء هذا الحزب كملاذ احتياطي ولكنه تمرد عليه وتمت إقالة رئيسه من مجلس الفيدرالية الذي كان يرأسه . لكن في النهاية ومما لا شك فيه أن المظاهرات الأخيرة قد هزت عرش بوتين بشدة ، وبدا الارتباك واضحا عليه ، ومن الصعب بمكان أن نعتقد بأنها لن تترك آثار خاصة علي المستوي الإقليمي فإذا حقق المتظاهرون الروس مكاسب مهما كان حجمها فإن آثارها ستمتد إلي أوكرانيا وبيلوروسيا وستلقي بظلال شديدة علي أنظمة وسط آسيا التي تحكم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بالحديد والنار ، مظاهرات روسيا ربما يكون لها تداعيات حتي علي الصين.