هناك جنود مجهولون فى تاريخ حياتنا الأدبية كان يسربلهم الإخلاص للعلم وحده ولم يهتموا بالشهرة أو الانتشار وحسبهم أن فعلوا هذا حسبة لله تعالى، ومن هؤلاء الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنا (موضوعا حديثنا فى السطور التالية) وهو العالم اللغوى الشهير الذى سبر غور عشرات من الموضوعات فى اللغة والنحو، وحقق عيوناً من كتب التراث العربى الثرى الذى لا ينضب معينه وخلف لنا عشرات البحوث والكتب فى شتى الموضوعات . كانت حياته شعلة نشاط دائم وكان رحيله مفاجأة للمخلصين وإن لم يهتم برحيله الدوائر الثقافية فى بلادنا ولكن الذى فت فى عضدنا أن تجاهلت رحيله المؤسسة الأزهرية فلم نرى خبر رحيله فى صحيفة "صوت الأزهر" ولم تكتب "مجلة الأزهر" عنه سطرا وهو الذى مدها بعشرات البحوث والمقالات. ولد الدكتور محمد إبراهيم البنا فى السادس عشر من ذى الحجة سنة 1351ه (11إبريل 1933م) فى مدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية فى أسرة متوسطة لأب يعمل مقاولاً معمارياً فقرر أن يهبه مع أخوته ال14 لخدمة القرآن الكريم فاتم الطفل محمد حفظه وهو لم يبلغ سن الحادية عشر، ثم قرر هذا الوالد التقى المخلص أن يهبه للأزهر كعادة الأسر فى الريف فى هذا التوقيت الذين كانوا يحرصون على تعليم أولادهم فى الأزهر خوفا من ذوبانهم فى المدارس المدنية التى كان يشرف عليه الاستعمار وتخضع تماما للتغريب فألحقه والده بمعهد دمياط الدينى ثم حصل منه على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمعهد المنصورة الدينى وحصل منه على الشهادة الثانوية بتفوق، ثم التحق بكلية اللغة العربية (كلية القمة فى هذا التوقيت) وفيها درس على أعلامها ومنهم الشيوخ والأساتذة الأجلاء: محمد محى الدين عبدالحميد، وعبدالمتعال الصعيدى، ومحمد عبدالمنعم خفاجى، وحسن جاد حسن، والإمام الأكبر الراحل محمد محمد الفحام الذى كان عميدا للكلية وغيرهم من الأعلام ..وحصل على الإجازة العالمية من كلية اللغة العربية عام1959، وكان ترتيبه الثانى على الدفعة، ثم حصل فى الوقت ذاته على دبلومة الخط العربى وزخارفه ونال المركز الثانى على مستوى الجمهورية، وحصل على إجازة التدريس عام 1960، ثم حصل على دبلومة الدراسات العليا عام 1965وحصل على درجة الماجستير عام 1967، ثم على درجة الدكتوراه عام 1971 بدرحة امتياز مع مرتبة الشرف وعنوانها تحقيق كتاب "نتائج الفكر للسهيلى" وقد أوصت الجامعة بطبع الرسالة وتداولها بين الجامعات الأخرى. نداء الواجب: بع تخرجه لبى نداء الواجب مجنداً بالقوات المسلحة بسلاح المدفعية لمدة عام فى الفترة من 1960وحتى 1961، وبعد نكسة 1967 انضم لقوافل الدعم المعنوى والدينى للجنود المصريين خلال حرب الاستنزاف والتى أشرفت عليها إدارة التوجيه برئاسة اللواء أح محمد جمال الدين محفوظ، والذى استعان بعلماء الأزهر والأوقاف وبفضل هذا التحفيز انتصر المصريون فى أكثر من جولة خلال هذه الحرب مما جعل إسرائيل تستصرخ العالم لوقف هذا المارد المصرى وانتهت مبادرة "روجر" التى قبلها كل الأطراف وقد وهب أكبر أبنائه بعد ذلك للإلتحاق بالقوات المسلحة فهو الآن برتبة عقيد مهندس ... حياته العلمية: بدأ الدكتور البنا حياته العلمية مدرسا بالمعهد الدينى بأسوان عام 1961- 1962، ثم عين معيداً فى كلية اللغة العربية اعتباراً من 15/7/1963 بقسم اللغويات العربية وبعد أن حصل على الدكتوراه عين مدرساً فى 15/9/1971، ثم رقى إلى أستاذ مساعد فى 13/11/1976، ثم عمل فى جامعة قاريونس بليبيا فى الفترة من عام 1973وحتى 1977كما عمل أستاذاً زائرا فى جامعة أم درمان بالسودان عام 1980، ثم رقى أستاذاً للغويات فى كلية اللغة العربية بالقاهرة فى 11/11/1981، وأستاذا فى جامعة أم القرى من 1981وحتى عام 1996، ثم عين عميداً لكلية الدراسات العربية بسوهاج عام 1997، كما عمل أستاذا متفرغاً بكلية اللغة العربية بالمنصورة وكلية الدراسات الإسلامية ببورسعيد وكلية القرآن الكريم بطنطا كما حاضر فى معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية ... الدكتور البنا محققا للتراث: قدم الأزهر منذ فجر النهضة الأدبية الحديثة فى عهد محمد على العديد من محققى التراث ونشره وذلك بعد إنشاء مطبعة بولاق، فقد اعتمد عليهم فى البعثات العلمية إلى ايطاليا وفرنسا، كانوا يعتزون بتراث الأمة الفكرى والعلمى ولم يشنعوا عليه ويرموه بكل بقيصة كما تفعل النخبة الثقافية فى هذه الأيام، فقد تم بعث أمهات كتب التراث ومنها الموسوعات الضخمة فى التفسير واللغة والحديث والفقه والتاريخ وعلم الكلام و التراجم والسير، ومن يرجع إلى قوائم الكتب التى نشرت يهوله حجم الجهد الذى بذل واستمر الأزهر فى تقديمه للأعلام منهم الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، ومحمد محى الدين عبدالحميد، ومحمد عبدالمنعم خفاجى، وعبدالقادر حسين، ومحمود عبدالوهاب فايد، وطه عبدالروؤف سعد.
وكان الدكتور محمد إبراهيم البنا امتداداً لجهود هؤلاء، فلقد تتلمذ عليهم وزامل بعضهم فى بعض الأعمال التى حققها، وقد استعانت به مؤسسة الشعب فى تحقيق بعض الأعمال الخالدة فى سلسلة كتاب الشعب التى بدات فى الصدور منذ خمسينيات القرن الماضى واختارت بعض كتب التراث التى تهم المسلم فى التفسير والحديث والفقه والتاريخ والسيرة فقد كان التحقيق يتم بصورة علمية ويصور كل مخطوطات الكتاب المتواجدة فى كافة أجاء المكتبات فى العالم ويختار أكملها ويتم مقابلتها على عدة نسخ وقد حقق المشروع بغيته وأهدافه ورسالته ومن الكتب التى حققها فى كتاب الشعب "أسد الغابة فى فى معرفة الصحابة" للحافظ عزالدين أبوالحسن على بن الأثير الجزرى و"تفسير القرآن العظيم" للحافظ عماد الدين أبوالفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى، الذى طبعه طبعة اخرى عن دار القبلة، كما حقق اعمالا ً أخرى مثل: "السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية والرد على النحاة لابن مضاء وكتاب الخراج لأبى يوسف، و"أخبار النحويين" للفراء أبى طاهر عبدالواحد بن عمر و"معلقة عمرو بن كلثوم"، و"المقاصد الشافية فى شرح الخلاصة الكافية" قام بتحقيق الأجزاء الثانى والرابع والسابع والثامن والتاسع. كما أن له مؤلفات أخرى منها: "ابن كيسان- حياته وآثاره وآراؤه"، و"أبوالحسين ابن الطراوة واثره فى النحو"، و"تخريج النص"، و"تحليل الجملة الفعلية"، و"فهرسة التراكيب"..
كما ارتبط بالإمام السهيلى وهو من رواد الأندلس فى القرن السادس الهجرى وأحد الذين برعوا فى غير علم من العلوم الإسلامية وبرز فى العربية برزوا جعله محط الأنظار فشدت إليه الرحال واخذ عنه الطلاب وجلس إليه العلماء يسألونه فيما أشكل عليهم من اللسان العربى ويرون عنه كتبه وأماليه وإن هذه الكتب والأمالى لشاهد صدق على هذه الثقافة التى تمتع بها السهيلى فاختاره موضوعا لرسالة الدكتوراه بتحقيق كتابه "نتائج الفكر" التى تم طبعها على نفقة الجامعة كما أسلفنا وحقق له أيضاً "الفرائض وشرح آيات الوصية"، و"أمالى السهيلى"، وكان قد بدأ بتحقيق أشهر كتبه على الإطلاق فى السيرة النبوية "الروض الآنف" ولم ينته من مراجعته لظروف مرضه ووفاته كما ألف عنه "أبوالقاسم السهيلى ومذهبه النحوى" وقد نبعت هذه الدراسة أساسا من تراث السهيلى فقامت على كتبه وأماليه هذا إلى ما نسب إليه من موسوعات فى النحو وقد حاول فى هذه الدراسة أن يبين ما أضافه من آراء نحوية وأن يقدم اصوله التى ينزع إليها ..
كما كان للدكتور البنا جهود اخرى منها مساهمته ضمن نخبة من أساتذة جامعة أم القرى فى "التفسير الميسر للقرآن الكريم" والذى قام بطباعته مجمع الملك فهد للمصحف الشريف وترجماته إلى معظم اللغات الحية ومنها الألبانية والأهورية والأسبانية والأردية والانجليزية والأوزبكية والايطالية والفرنسية والبوسنية والسويدية وغيرها من اللغات... كما كتب فى الدوريات والصحف والمجلات مقالات عدة، وقدم سلسلة حلقات فى إذاعة القرآن الكريم (من بلاغة القرآن) فى مكةالمكرمة تحدث فيها عن استخدام الألفاظ والمترادفات فى القرآن الكريم
توفى الدكتور البنا يوم 28شوال 1433ه الموافق 15سبتمبر 2012عن عمر اقترب من الثمانين رحمه الله رحمة واسعة ..