بات حال الجنيه المصري لا يسر عدوًا ولا حبيبًا، بعد أن انخفضت قوته الشرائية بشكل كبير، وأصبح "ملطشة" في السوق في مواجهة أسعار الطماطم والخيار والفاصوليا وغيرها من الخضراوات. من منطلق أن زيارة المريض واجبة، قررنا تفقد أحوال الجنيه المصري بشكل عاجل في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار وتدهور الأحوال المعيشية للمصريين. على سرير المرض تحيط به أجهزة التنفس الصناعي والصدمات الكهربائية والإفاقة تذكرت لحظة ميلاده في 25 يونيو عام 1898 عندما حصل البنك الأهلي على امتياز من الحكومة بإصدار أوراق بنكنوت من فئة 50 و100 قرش ومائة جنيه وفئات أخرى لتحل محل النقود التي كانت تستخدم من الذهب والفضة والبرونز والنيكل، وسببت ارتباكاً شديداً في العملة بسبب رداءة صنعها وسهولة تزييفها, وتم تقسيم الجنيه إلى 100 قرش، والقرش إلى 10 مليمات, واستطاع الجنيه في عنفوان صحته أن يناطح الجنيه الذهبي والإنجليزي ويتغلب عليهما حتى أصابته بفعل فاعل أمراض الشيخوخة والموت الإكلينيكي. كان للمصاب في الخمسينيات قوة خارجية، وكان ينصح باقتنائه كأقوى عملة في ذلك الوقت فالجنيه الإسترليني وقتها كان يساوى 5,97 قرش، والدولار ب34 قرشًا، والجنيه المصري كان يعادل 12 ماركًا ألمانيا، و10 ريالات سعودية، فيما كانت هناك حسابات مفتوحة بالجنيه المصري في البنوك الخارجية ويتم التعامل عليها ولا توجد قيود على دخول أو خروج الجنيه بأية كميات ومع أي فرد. تحسست نبض الجنيه فشعرت بحجم الوهن الذي لحق به على مر الأيام فقد كان «شفاه الله وعافاه» أقوى من الجنيه الذهبي والذي أصبح الآن يقدر ب 2052 جنيهًا مصريًا, وكان يمكن أن تشترى بالجنيه ألف بيضة في عام 1919 عندما كان للمليم (عُشر القرش) قيمة ، وتم إلغاؤه كعملة في عهد السادات وأصبح القرش أصغر وحدة في العملات المصرية. كان يمكن أيضًا أن تشترى بالجنيه عام 1946 قميصًا وبنطلونًا وحذاء, وفى عام 1950 كان الناس يشترون 2 كيلو من اللحم بجنيه, وكانت المصيبة عام 77 عندما وصل ثمن كيلو اللحم إلى جنيه فخرجت المظاهرات تندد بسقوط هيبة الجنيه ، بينما بلغ سعر كيلو الطماطم 25 قرشا مما اضطر وزير الداخلية آنذاك اللواء النبوي إسماعيل للتدخل وشن حملات تموينية ورقابية لضبط الأسعار وردع التجار والمحتكرين. وظل المريض يفقد هيبته مع مرور السنين حتى قررت حكومة الدكتور أحمد نظيف تنفيذ خطة لإحلال الجنيه المعدني كبديل عن الجنيه الورقي بشكل كامل، وسحب الجنيه الورقي من قبل البنك المركزي، وتم طرح الدفعة الأولى من العملات المعدنية فئة الجنيه والنصف جنيه للمرة الأولى في تاريخ العملات المصرية في أول يونيو عام 2006، حتى تندر البعض بأن الزمن عاد بنا إلى عصر "سرة الدراهم والدنانير". انتهى وقت الزيارة فحالة المريض لا تتحمل, وهو ما شخصه الدكتور حمدي عبد العظيم -أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية- بتدهور حاد في قيمته الشرائية، وعجزه عن مجاراة أسعار العديد من السلع. يقول إن الجنيه في بداية إصداره عند طرحه للتداول كورق بنكنوت عام 1899 كان قابلاً للتحويل لذهب حيث كانت قيمة الجنيه تساوى 5,8 جرام من الذهب, ولكن كان الناس يخشون التعامل بالورق ويعتمدون الذهب كوسيلة للتعامل النقدي حتى طرح البنك الأهلي 15 ألف جنيه فقط وبدأ المواطنون يثقون في العملة الورقية ويتداولونها، وفي عام 1914 رفع البنك الأهلي حجم الأوراق المطروحة للتداول وطبع 8 ملايين جنيه. وكان الجنيه في عام 1947 يساوى أربع دولارات, وبعد قيام الثورة كان الدولار يساوى 40 قرشًا, ومع حرب 1967 وغلاء الأسعار أصبح الدولار يساوى 70 قرشًا, وبعد سياسة الانفتاح التى اعتمدها الرئيس السادات عام 74 أصبح أعلى سعر للدولار 125 قرشًا. إلا أنه بسبب ارتفاع حجم التضخم واستمرار ارتفاع الأسعار وصلت قيمة الدولار إلى جنيهين عام 1990, ومع العجز فى الميزان التجاري تدهور الجنيه حتى أصبحت الخمس جنيهات ونصف الجنيه تساوى دولارًا واحدًا، وفقد الجنيه قيمته الشرائية بشكل كبير حتى وصل إلى ما هو عليه الآن . وعن ذكرياته مع الجنيه يقول كمال محجوب -مدير إدارة سوق المال بأحد البنوك- إنه في فترة الستينيات كان يشتري القميص ب60 قرشًا والحذاء ب65 قرشًا, أما الأطعمة فكيلو السمك بستة قروش، وكيلو اللحم لم يتجاوز الجنيه، وب15 مليمًا كان يشترى بيضتين, أما عن أسعار المواصلات فتذكرة الأتوبيس بعشرة مليمات، والترام بخمسة فقط, فالجنيه على حد وصفه كان ثروة آنذاك، وأول مرتب لي في منتصف السبعينيات كان 17 جنيهًا تستطيع أن تفعل بها الكثير أما الآن فلا تساوى قيمة 2 كيلو طماطم!.
ويشير محجوب إلى ميزة مهمة فقدها الاقتصاد المصري وتسببت في تدهور قيمة الجنيه، وهى أن مصر كانت تمثل مزرعة العالم وتمتعت باقتصاد زراعي قوى، وبالتالي كانت دولة منتجة تصدر ولا تستورد, ولكنها فقدت تلك الميزة ولم تنجح في التحول لبلد صناعي، ولم يقدم اقتصاد قطاع الأعمال الكثير وتدهورت على سبيل المثال صناعة الغزل والنسيج وغيرها من الصناعات.
يضيف أن الاقتصاد المصري تمتع بمكانة عالية على مستوى العالم، وأيضًا الجنيه المصري كان يتغلب على الجنيه الإسترليني والجنيه الذهب والدولار, ولكنه مر باضطرابات سياسية واقتصادية عبر حقبة كبيرة من الزمن تسببت في تدهوره, وقد بدأت اليابان معنا عصر النهضة ولكنها سبقتنا لأسباب معروفة، وصار الين الياباني عملة قوية أمام العملات الأخرى بسبب قوة الاقتصاد الياباني، وغزو منتجاته لأسواق العالم بما فيها السوق الأمريكية.