اقتحام مكتب قناة الجزيرة مباشر سلوك متهور ومسيء إلى مصر خاصة في عهدها الجديد ، والذي فعله أسامه هيكل أمس هو نسخة مما كان يفعله أنس الفقي في أواخر عصر مبارك ، ولا يفرق بين الموقفين محاولة "تقنين" عملية الاستباحة التي وقعت لمكاتب قناة فضائية شهيرة وذات حضور جماهيري كبير في مصر والعالم العربي ، والذين دفعوا أسامة هيكل إلى هذا "التهور" لأن قرار المداهمة أكبر من هيكل أساءوا التقدير ، وحديثوا عهد بلعبة السياسة ، ولا يدركون أن مثل هذا السلوك يجعلهم يخسرون كثيرا في الحساب السياسي ، بينما تربح القناة بكل تأكيد ، ومن الناحية العملية لن يضرها ما حدث كثيرا . اقتحام مكاتب قناة فضائية بعدد من رجال الأمن ورجال الضبط وحملة تفتيش مدعومة بفنيين من اتحاد الإذاعة والتليفزيون لا يمكن تبريره بالكلام "الخائب" الذي أعلنته مصادر رسمية من أنه محاولة للتثبت من صحة تراخيص عمل القناة في القاهرة أو التثبت من قانونية استخدام نظام البث من قبل الشركة التي تستأجر منها الجزيرة مباشر مكتبها وإشارة البث ، فهذا التثبت يمكن تحقيقه بسهولة تامة وبأسلوب حضاري ومحترم باستدعاء لائق لمسؤولي القناة والطلب منهم الإفادة عن هذه التراخيص وتقديم الأوراق والمستندات ، فإذا عجزوا عن ذلك يتم إخطارهم بضرورة استيفاء التراخيص في مدة زمنية محددة أو حتى الطلب منهم التوقف عن البث لحين إصدار تراخيص ، أما هذه المداهمات فهي أساليب نظم قمعية وبوليسية ولا تعرف للقانون حرمة ولا للتحضر قيمة . وأنا مندهش من التمسح بالقانون والتراخيص في هذا المقام ، ذلك أننا لو دخلنا من هذا الباب فعلا ، لكانت هناك قنوات أخرى أولى بالمداهمة والتوقيف من قناة الجزيرة مباشر ، فهل يمكن لأسامة هيكل أن يحدثنا عن الوضع القانوني لقناة التحرير ، وما هي التراخيص التي تعمل بها هنا في مصر ، وما هي الشركة التي أطلقت القناة وما هي مستنداتها وما هو الوضع القانوني لاستديوهاتها في القاهرة وبث إشارتها من مصر ، هل يستطيع أسامة هيكل أو من حدثوه عن القانون أن يذكروا للرأي العام المصري ما هي ميزانية قناة التحرير ومن أين يأتي تمويلها ومن هم ملاكها الحقيقيون أو حتى المستعارون وما هو كيانها القانوني ، فما معنى أن تغمض عينك عن قناة كل وجودها "الرسمي" في مصر وهمي ، في حين تتمحك في القانون مع قناة هي فرع من قناة أم أو شبكة أم لها تراخيصها عندك ولها من قبل التراخيص احترامها في العالم كله . بطبيعة الحال أنا لا أدافع عن قناة الجزيرة مباشر لذاتها ، أو لارتباط خاص بها ، فقارئ هذه الزاوية يعرف أن لنا خصومة معها ، وهي قناة لم تطأها أقدامنا منذ نشأتها حتى الآن لاعتبارات شخصية ، ولا يعنينا ذلك أصلا ، ولكن المسألة هنا مسألة مبدأ ودفاع عن كرامة الإعلام المصري ، وكرامة مصر ذاتها وثورتها التي ملأتنا تفاؤلا وعزة واستبشارا بغد أكثر حرية وعدالة واستنارة ، كما لا يفهم من كلامي أي تحريض على قناة "التحرير" رغم اختلافي مع سياساتها الموجهة بطريقة بدائية وفجة للغاية تجاه مواقف محددة من بعض المؤسسات ، ولكني مع ذلك أدافع عن حقها في الوجود وحق أي قناة فضائية تلتزم بمعايير مهنية معقولة ، وعن الرأي الذي تتبناه أيا كان ، فلا يليق أن تفوض أي جهة نفسها وصية على وعي الناس وعقولهم ، والشعب الآن أصبح أكثر قدرة على الفرز ، بل إن قناعتي أن اتساع رقعة الفضاء الإعلامي تذهب الهيبة الآسرة عن الشاشات ، وتجعل الناس أكثر زهدا في غثائها وأقل احتفالا حتى برموزها ، وهذا في صالح الحقيقة وصالح تنامي الوعي . الغارة على مكتب قناة الجزيرة مباشر تأتي في سياق قرارات متشنجة ومتوترة تتعلق بمحاولة تضييق مساحات الحرية أمام الإعلام الجديد ، كما تأتي في سياق دعوات مشبوهة لتضييق مساحة الحرية وإحياء قوانين الطوارئ في وقت لم تنضج بعد جهود إصلاح القضاء يما يحقق استقلاليته وسيادته وضمان حمايته للحريات العامة ، وكل هذه إشارات مزعجة وترسل رسائل شديدة السلبية ومستفزة ومقلقلة للحركة الوطنية ، ولا تصب أبدا في مسارات الإصلاح والتهدئة . [email protected]