من المفارقات اللطيفة التي أفرزتها "الانتهازية السياسية"، أن العلمانيين المصريين كانوا أول الذين دعوا بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 إلى أن تكون القاهرة عاصمة الخلافة الإسلامية، وإلى إسناد منصب "الخليفة" للملك فؤاد الأول! وقد تبنى هذه الدعوة كبرى الأحزاب العلمانية المصرية آنذاك وهو حزب الأحرار الدستوريين وكتبت صحيفة السياسة، الناطقة بلسان حاله قائلة: "إن ثلاثمائة مليون مسلم يرحبون بقبول الملك فؤاد خليفة للمسلمين، لأن مصر سراج الذكاء الإسلامي"، رغم أن حزب الأحرار، كان في الأصل امتدادًا (أو بالتحديد تجديدًا) لحزب الأمة أسسه كرومر الذي تبنى تعاليم أحمد لطفي السيد وعلى رأسها "مدنية السلطة والحكومة" ومعارضة أي محاولة تعيد إحياء الحكومة الدينية، بيد أن الموقف الأخير للعلمانيين المصريين ممثلاً في حزب "الأحرار الدستوريين"، كان مستندًا إلى مبدأ "نفعي" وليس "أيديولوجيًا".. إذ كانت مصلحتهم تلتقي آنذاك مع مصلحة "القصر"، عندما كان "الأحرار الدستوريون" مشاركًا مع حزب "الاتحاد" الذي صنعه القصر الملكي، في ائتلاف حكومي في وزارة أحمد زيوار باشا، وبعدما فض الائتلاف الوزاري بينهما، وانتفت المصلحة، وشعر الدستوريون بمرارة التهميش، انقلبوا على موقفهم السابق وتحول حزبهم من التأييد "المصلحي" لفكرة إحياء "دولة الخلافة"، إلى إبداء العداوة والبغضاء لها وللمدافعين عنها، واحتضن الشيخ علي عبد الرازق، وتبنى الدفاع عن كتابه "الإسلام وأصول الحكم".. فضلا عن أن حماسه للدفاع عن الأخير، كان أكثر المواقف التي أفصحت عن "الانتهازية السياسية" في أجل صورها، ففي حين كان الحزب يدافع عن حرية علي عبد الرازق، وعن حقوقه الدستورية، شارك في الوقت نفسه في وزارة "زيوار" التي عطلت الدستور واعتدت وصادرت الحريات العامة، وأصدرت في 2 إبريل أي في نفس الشهر الذي صدر فيه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" قانونًا يحرم قطاعًا أساسيًا من قطاعات المتعلمين والمثقفين، وهم الموظفون، من الاشتغال بالأمور السياسية، وتحول بينهم وبين العمل السياسي وتمنعهم من كل قول أو عمل يشف عن غير النشاط الوظيفي والإداري في المصالح والدواوين.. ونشرت ذلك جريدة السياسة، حتى أن أحمد بهاء الدين وهو كاتب علماني شهير، عقب على هذا الموقف في كتابه "أيام لها تاريخ"، متسائلاً: ".. كيف يزعجهم إلى هذا الحد مصادرة رأي كاتب واحد يقصد علي عبد الرازق ولا تزعجهم مصادرة الدستور وآراء الناس جميعًا"، وفي المقابل كان موقف علماء الأزهر آنذاك مثيرًا للدهشة، عندما وقع أربعون منهم عريضة، ذكروا فيها "أن مصر لا تصلح في الوقت الحاضر دارًا للخلافة، وهي لا تزال محتلة بدولة أجنبية والحكم فيها لا يزال بأيدي غير أبنائها، وحكومتها أباحت المحرمات، من خمر وبغاء وميسر قانونًا"، وكان لافتًا أن كبار المثقفين العلمانيين، مارسوا السياسة انطلاقًا من هذا المنحى الانتهازي النفعي.. ففي حين كان رائد الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد، يدافع عن الدستور والحرية، نجده يقبل المشاركة في وزارات عمدت جميعها إلى الانقلاب على الدستور والبرلمان والحريات العامة!.. لعل هذه القراءة أيضًا تفسر لنا التقلبات السياسية المتتابعة للدكتور طه حسين، فعندما كانت مصلحة الأخير مع "أصحاب البيوتات"، وفي مقدمتهم "آل عبد الرازق"، اندمج في حزب الأحرار الدستوريين، وهاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال"، في الفترة ما بين (1922 إلى 1927) حتى وفاته، وبعدما عجز الأحرار الدستوريون عن حماية علي عبد الرازق، خلال أزمة "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، وعن حماية طه حسين في أزمة "في الشعر الجاهلي" عام 1926، تخلى حسين عن الدستوريين، والتحق بحزب الوفد طلبًا للحماية السياسية وكتب عن سعد زغلول مقالات رفعت الأخير إلى أعلى علّيين!
يمكن للسادة القراء مراجعة كل طارق البشري "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، والدكتور محمد عمارة "معركة الإسلام وأصول الحكم"، دار الشروق، القاهرة ، ط 2 عام 1997، وأحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ"، ط دار الشروق القاهرة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.