يروى لنا العلامة الدكتور محمد رجب البيومى (1923-2011م) فى كتابه الهام (مواقف خالدة لعلماء الإسلام)، أن الخديوى إسماعيل (1863-1879) ضاق بوضع الجيش المصرى فى حرب الحبشة، فأرسل فى طلب رئيس الوزراء شريف باشا ليحادثه، وقال له: ماذا تفعل حين يضيق بك الأمر، فقال شريف باشا: ألجأ إلى صحيح البخارى يقرأه لى علماء أطهار الأنفاس.. فيفرج الله عنى. فاستدعى الخديوى الشيخ العروسى شيخ الأزهر وقتها، وطلب منه أن يقرأ له العلماء الصالحون صحيح البخارى أمام القبلة فى الأزهر.. وفعل الشيخ. ولكن أوضاع الجيش المصرى لم تتحسن، فذهب الخديوى ومعه شريف باشا إلى العلماء الذين قرأوا البخارى، وقال لهم إما أن ما تقرأون ليس صحيح البخارى.. أو أنكم لستم علماء.. فقام أحد العلماء من آخر الصف (الشيخ محمد توفيق البتشتى 1877-1939م)، وقال له: هزمنا منك يا إسماعيل..! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لتأمرن بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لكم)، فملأ الصمت المكان ووجم الجميع.. وانصرف الخديوى وشريف باشا لا يلوون على شىء.. بعدها بفترة طلب الخديوى مقابلة هذا الشيخ وقال له: أعد على الحديث الذى ذكرته يا أستاذ.. فأعاد عليه الحديث، فقال الخديوي: وما صنعنا حتى ينزل هذا البلاء؟ فأخذ الشيخ يعدد له فى جرأة وشجاعة أشكال الانحراف والفساد، فقال له الخديوي: وما نصنع وقد خالطنا الأجانب وهذه مدنيتهم.. فقال له الشيخ: وما ذنب البخارى وما حيلة العلماء؟ فأطرق الخديوى وصرف الشيخ وأرسل معه من يودعه إلى باب القصر.. (الشيخ البتشتى ترشح وفاز فى انتخابات مجلس النواب 1925م). (والخديوى إسماعيل على نزقه واندفاعاته.. هو الذى أنشأ المتحف المصرى والأوبرا وحفر الترع وبنى قصر عابدين وأنشأ كوبرى قصر النيل والسكك الحديدية وألغى تجارة الرقيق التى كانت منتشرة فى السودان). يأخذنا العلامة الراحل د.رجب البيومى إلى موقف آخر، كان طرفاه الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الجامع الأزهر وقائد الجناح جمال سالم.. والذى حدث أن الشيخ (عبد الرحمن تاج) شيخ الجامع الأزهر (1954-1958م)، تلقى دعوة رسمية عام 1955م من (سوكارنو) رئيس جمهورية إندونيسيا لزيارتها والمشاركة فى احتفالها القومى بوصفه شيخ الأزهر. وفى الوقت نفسه، سافر وفد الحكومة برئاسة قائد الجناح (جمال سالم 1918-1968) ووضعه معروف بين (الضباط) الذين استولوا على السلطة فى مصر فى يوليو عام 1952، وسافر وفد الأزهر برئاسة الإمام الأكبر ووفد الحكومة برئاسة (جمال سالم) فى طائرة واحدة. ومرت الطائرة بباكستان أولاً، وعندما هبطت كان الاستقبال بالغ الحفاوة بالوفدين وفى غيرها من البلاد.. فى إندونيسيا كان الاستقبال بالغ الحفاوة بوفد الأزهر والشيخ الجليل، وانصرف الناس – إلى حد الإهمال – عن وفد الحكومة وجمال سالم، وهاج جمال سالم وكان معروفًا عنه سرعة الهياج وبذاءة اللسان.. وبعد انقضاء المظاهر الاحتفالية نادى على الشيخ عبد الرحمن تاج وقال له: لابد أن يرحل من معك من العلماء الآن وحالاً وتبقى أنت وحدك، فقال له الشيخ فى حدة: سأرحل معهم الآن.. وسكت جمال سالم ووجد أن موقفه سيكون فى غاية الحرج أمام مضيفهم فى إندونيسيا. وحين عاد الشيخ عبد الرحمن إلى القاهرة عقد مؤتمرًا صحفيًا حول حفاوة الاستقبال لبعثة الأزهر فى رحله إندونيسيا، وقابل الرئيس عبد الناصر وحكى له موقف جمال سالم، فسكت ولم يعقب.. بعدها سيعهد عبد الناصر إلى أخطر شخصيات دولته ومؤسس جهاز المخابرات العامة (على صبرى 1920-1991م)، بالإشراف على شؤون الأزهر كى يتمكن من (كسر أنف) الشيخ عبد الرحمن خريج السوربون وصاحب كتاب (تاريخ التشريع الإسلامي).. يظهر لنا المشهدان موقف السلطة فى زمنين مختلفين من إحدى أهم مؤسسات المجتمع.. مع ملاحظة أن الخديوى كان فى زمن (حرب).. وكان بإمكانه أن يعصف بالرؤوس ولم يفعل.. وتحكى لنا كتب التاريخ مواقف كثيرة بين أفراد الأسرة العلوية وبين علماء الأزهر ومشايخه، تظهر كم كانت السلطة وقتها تجل الأزهر وعلماءه وتحسب لهم ألف حساب.. وكان الموقف العام للسلطة وقتها من مؤسسات المجتمع موقفًا حضاريًا بامتياز.. يتسم بالاحترام والترحاب وحتى حين تضيق الصدور وتتأزم الأمور كانت المسألة لها سقف تنتهى عنده.. فما كانت الممارسات السلطانية الطليقة تسرح وتمرح ما شاء لها كما رأينا فيما بعد.. حيث استقرت وترعرعت طقوس وممارسات (الدولة عاتية القهر) على يد الرئيس عبد الناصر وأصحابه الكرام. وما كان لجمال سالم أن يسلك مسلكه هذا إلا من خلال استقرار هذا المفهوم فى وعيه ووعى زملائه.. وهو الأمر الذى أصبح مكينًا فى علاقة (السلطة) ب(المجتمع) بطول ممارسته بأقصى ما يمكن من القسوة والعنف.. وأصبح من المكتسبات التى لا يمكن لأى حاكم التفريط فيها.. خطورة هذا الأمر.. فيما يتبعه من (ضعف المجتمع).. وتشرذم وانزواء أفراده فى خبايا الضرورات الشخصية البحتة.. حيث يحوطهم الخوف المريع ويلاحقهم فى حلهم وترحالهم.. ومع ما تحمله ثقافة (الخوف الجماعى) العام من شديد الضرر على مستقبل المجتمع وقواه الحيوية إلى حد مثير للجزع.. فتغيب الكفاءات وتضيع المواهب وتنعدم المشاركة ويشحب الخيال ويغيم الإدراك والوعى وهو المناخ الذى تنهض فيه أخس الصفات وأرذلها من اللامبالاة إلى الكذب إلى النفاق.. إلى كل أشكال الانحطاط العام. وتتكون لدى الناس حالة كراهية عميقة للسياسة وأشخاصها وعدم الانفعال بها على الإطلاق.. اللهم إلا من خلال النكتة.. الحاكم القوى السوى تتجه طبيعته لأن يحكم (مجتمعًا قويًا) أفرادًا ومؤسسات.. فغير أن ذلك يرفع من شأنه من جهة الزعامة والكيان.. فإن ذلك أيضًا يعكس حاله من حالات (الأمانة التاريخية).. إذا جاز هذا التعبير.. لأن الأمور كلها إلى فناء، وما الدور إلا وسبقته أدوار وستلحقه أدوار. ( سبقنا إلى الدنيا ولو عاش أهلها ** منعنا بها من جيئة وذهوب).. ما رأيناه فى مرحله (الدولة القومية) بعد الاستقلال، من تعاظم مهول لدورها إلى حد تجاوز وصف (توماس هوبز) عن (الدولة التنين).. ما كان له أن يكون إلا بعد الإتيان على المجتمع وتحويله إلى أرقام فى لوائح التعداد، (وكان هذا الهدف من أهم أهداف عبد الناصر فى تعامله مع مصر والمصريين).. مجرد رؤوس منخفضة ساكنة لا ملامح لها.. وغرس الخوف والهلع والذعر فى كل خلية من خلايا أفراده.. حيث يغيب الهدف الجماعى والحلم الجماعى، وبالكاد أحد يلتفت إلى أحد.. لا شيء غير الأسى واليأس والمرارة.. فنجد أنفسنا أمام ما يسميه علماء الاجتماع السياسى (جمهورية الخوف).. وهو الوصف الذى ذكرنا به مؤخرًا الرائد الكبير د.عبد المنعم أبو الفتوح. وهو حالة تتنافى مع الطبيعة الإنسانية السوية التى تأبى الضيم والذل، ومع الثقافة الإسلامية التى تنص على إعلاء شأن الكرامة الإنسانية، وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أساس متين فى البنية الفكرية والسلوكية للمجتمع، وفق نظام عام بطبيعة الحال (لا يحقرن أحدكم نفسه بأن يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه). من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، دخل حذيفة بن اليمان على الحاكم (عمر بن الخطاب)، فوجده مهمومًا مكدرًا، فسأله عن سبب ذلك، فقال له أخاف أن أخطئ فلا ينبهنى أحد تعظيمًا ومخافة، فقال له حذيفة: (والله لو رأيناك على خطأ لصوبناك). هذه هى ثقافة من يعبد (الله وحده) ولا يتخذ من دونه أربابًا صراحة أو ضمنا بالاسم أو بالفعل، وما أجمل قول محمد إقبال عن التوحيد أنه (كفكرة فاعلة عاملة يعنى: المساواة والتعاون والحرية فكل البشر سواء.. والله وحده هو الذى ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوًا أحد).. فى إحدى القصص القصيرة لأروع كاتبيها على الإطلاق (انطون تشيكوف)، قصة (المغفلة)، يستدعى صاحب البيت مربية أولاده، ليعطيها أجرها فيغالطها فى الحساب ويخصم منها ثمن ما لم تحطمه من فناجين وأطباق! ويعطيها ربع المرتب فتمد يدها هامسة مرتعشة، وتقول: شكرًا!! فيثور فى وجهها الرجل: شكرًا على ماذا؟ لقد سرقتك.. ونهبتك وها أنت تقولين شكرًا! لماذا تسكتين؟ لماذا لا تحتجين؟.. لأنها (خائفة) يا د/تشيكوف.. .......... بحر من دماء الخوف يسرى حولنا والآن نبحر فى مرافئ دمعنا لا تحزني ما زلت ألمح فى حطام الناس أزهارًا ستملأ دربنا (فاروق جويدة - قصيدة زمان الخوف)