لم يكن أبو عبد الله الحسين رضى الله عنه طالباً لجاه ولا رئاسة فقد كان يكفيه حبل الشرف الموصول بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ورد فى فضله من أحاديث صحيحة أنبأتنا أنه وأخاه الحسن رضى الله عنه سيدا شباب أهل الجنة . ولكن الحسين كان يدرك أنه ليس بوسعه أن يسكت وهو يرى ميراث النبوة يتآكل ودعائم دولة الإسلام تتهاوى أمام عينيه ، ودولة العدل والشورى التى أسسها جده – صلى الله عليه وسلم – ورعاها خلفاؤه الراشدون كأحسن ما تكون الرعاية تؤذن شمسها بالغروب ، فقد رفض الحسين الاشتراك فى توريث الحكم ليزيد بعد معاوية رضى الله عنه حتى لا تتحول الدولة إلى نسخة كسروية أو قيصرية . وبعد وفاة معاوية أراد يزيد أن يحمل الحسين على البيعة ولكنه رفض أن يكون ممن يساهم فى مهزلة التوريث والتى كان يعلم أنها ستفتح باباً عظيماً من الشر لن يغلق بعدها . كانت ثورة الحسين بمثابة إنذار مبكر للأمة بما ستؤول إليه الأوضاع إن لم تتحرك وتدافع عن حقها الأصيل فى اختيار من يحكمها اختيارا حرا صحيحا كما فعلوا فى اختيار الخلفاء الراشدين الذين لم تنعقد الإمامة لأى منهم إلا بعد موافقة الأمة ومبايعتها . كان الحسين يعلم أنه قد يقتل ولكنه آثر ألا يضن بحياته ولا بنفسه فى سبيل استمرار مسيرة التحرر وأن يعطى للأمة من بعده درسا عملياً فى مواجهة الظالمين وعدم السكوت على ظلمهم لأنه مؤذن بخراب الدنيا وضياع الدين ، فقاد الحسين واحدة من أعظم الثورات فى تاريخ الإنسانية باذلاً روحه وما يملك فى سبيل خدمة قضيته العادلة . كان بوسع الحسين التراجع خاصة بعد علمه بخذلان أهل الكوفة له ومقتل ابن عمه مسلم بن عقيل رسوله إلى أهل العراق ولكنه لم يفعل مع ضآلة عدد من بقى معه إذ لم يتعدوا اثنين وسبعين مقاتلاً إضافة إلى نساء آل البيت وكانت عروض الحسين للجيش الذى أرسله ابن زياد والى العراق بقيادة عمر بن سعد تتمثل فى ثلاثة أمور إما أن يتركوه يعود من حيث أتى أو أن يذهب إلى ثغر من الثغور فيجاهد هناك أو أن يذهب ليزيد ليعرض عليه الأمرين لا ليعترف له بولايته . ولكنهم أبوا أن تمر الأزمة دون سفك للدماء وإحداث حالة من الصدمة والترويع لعموم المسلمين فلا يجرؤ ثائر بعدها على رفع صوته مطالباً بالحق والعدل والحرية ، كان بوسعهم أن يتركوا الحسين يعود من حيث أتى ولكنهم كانوا يعلمون أنه رأس الأمر وممثل الحق وتركه حراً طليقاً معناه استمرار تواجد الثورة ماثلة أمام العيان وقد تنفجر فى أى وقت يصعب فيه السيطرة عليها . أصر عمر بن سعد على قتال الحسين وهو يعلم أنه قتال غير متكافىء فماذا يصنع اثنان وسبعون مقاتلاً أمام ما يقرب من ثلاثين ألفاً من المقاتلين المدججين بالسلاح ؟!! فحاصروا الحسين فى " الميدان " وأمطروه بالسهام والنبال من كل جانب فتساقط آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً تلوا الآخر وهم يدافعون عن حق الأمة فى اختيار من يحكمها ، والحسين يقاتل بكل بسالة وهو يعلم أنه مقتول لامحالة حتى رماه شقى محروم بسهم اصابه قلبه فخر صريعاً عن فرسه ولكنهم لم يتركوه فتكالبوا عليه طعناً بالسيوف . وانجلى غبار المعركة عن فجيعة إنسانية مروعة فجثث آل البيت متناثرة فى صحراء " كربلاء" وفى القلب منهم يرقد الحسين بعد أن تخلى عنه المسلمون وتركوه يخوض معركة الأمة المصيرية بمفرده فعادوا بعدها يعضون أصابع الندم !! ورغم مقتل الحسين إلا أن المعركة لم تنه بعد فالمطلوب هو رأس الثورة لإسكات أى صوت بعده فأصر رأس الفتنة شمر بن ذى الجوشن على " جز " رأسه وحمله إلى ابن زياد . انتهت المجزرة الدموية بجز رأس الحسين وفصله عن جسده ، وسوق نساء آل بيت النبوة فى ثياب الأسر إلى دمشق يعلوهن البكاء والنحيب على مقتل الحسين ومن معه !! ولعقود طويلة تركنا الحسين للشيعة يتاجرون به وبدمائه وتفرغ البعض منا للبحث عن الأعذار لقاتليه أو للتفتيش هنا وهناك عمن يكون قد عارض الحسين بكلمة عابرة حتى لا يتحملوا المسؤولية الأخلاقية التى حملها الحسين تجاه الأمة . ولكن راية الحسين التى كسرت لعقود عادت ترفرف من جديد ، وما وقف يطالب به أبوعبد الله وحيدا فى صحراء كربلاء من أن الأمة هى صاحبة الحق الوحيد فى اختيار حكامها والعدل والكرامة والحرية حقوق أصيلة لها ، عادت الأمة تطالب به ولن تهدأ حت تتحقق مطالبها رغم صدمات الترويع التى تتلقاها من أحفاد شمر بن ذى الجوشن من قتل وسحل وحرق للجثث وانتهاك للأعراض . ورغم إلحاح شيوخ الإرجاء والفتنة على التسليم ولم يكتفوا بتخليهم عن الحسين يوم كربلاء ، ولكنهم يصرون اليوم على كسر رايته . وإن كسرت راية الحسين اليوم فلن يكون البديل راية يزيد أو الحجاج ولكن البديل راية أبى جهل وابن سلول . رحم الله الحسين بن على .