ارتفع صوت الهاتف الجوال منبها صاحبه أن هناك رسالة تقبع في انتظاره لعله يلقي عليها نظره ، و تثائب نائل في تكاسل واضح وهو يهم القيام من جلسته و نادى على اخوته ليجلبوا له الهاتف ، فقد عمل لساعات طويلة و لم يعد قادرا على تحريك قدميه ، فأجابت والدته أن اختيه تعدان الطعام في المطبخ و الصغار في المدرسة و باقي ساعة على موعد قدومهم ، فنهض نائل متفهما من على سجادة متوسطة الحجم زاهية الألوان هي من صنع والدته العجوز التي احترفت تقريبا كل الأشغال اليدويه التي يمكن أن تدر ربحا تسد به رمق 9 أفواه مفتوحه بعد أن وقع عبء إدارة المنزل عليها وحدها منذ أن أصيب رب البيت بشلل نصفي تسببت به قذيفة صاروخية منطلقة من طائرة اف 16 الإسرائيلية أثناء عمله في مزرعة للأغنام خاصة بالعائلة في مدينة جباليا شمال القطاع . بعين نصف مفتوحه ، فتح نائل صندوق الوارد و انتظر ثواني قليله قبل أن تفتح الرساله ليفتح عينيه على اتساعهما غير مصدق لما قرأه و يتسمر أمامها و نصف فكه الأسفل تدلى الى الأسفل في مشهد مثير للتساؤل عما يكون قد حدث . " ايش فيك " تساءلت الأم العجوز و هي تنظر الى جسد يشبه جسد ابنها الا انه فاقد للروح و العقل ، " يا ابني ايش فيك " نادت العجوز على ابنها و لكن بصوت أعلى هذه المره ، ليفيق نائل و يحسب في جنون عدد الدقائق التي ضاعت منذ استلامه للرساله ، و يلقي الهاتف الجوال و يذهب الى غرفة المنزل التي احتوت أخاه الرضيع النائم بجانب أبيه و هو يصرخ " بدن يقصفوا البيت بعد 5 دقايق ، قوموا ، اهربوا " و حمل اخاه الرضيع و صرخ في اختيه اللتين كانتا تعدان طعاما في المطبخ و اللتين تسمرتا قليلا محاولتان استيعاب كلامه الذي ضاعت نصف حروفه في الصراخ و العويل و حاولتا معه تهدئته ليفهما ما حدث الا انه دفعهما بعنف تجاه الباب و هو يسلمهما أخاه الرضيع و قد أوشك على الانهيار و بدأت دموعه في التساقط و هو ينادى على أمه و يمسك يدها الا انها ازاحت يده واتجهت قبالة مخدع زوجها و استحلفتهان يعتني بأخوته لانها ستبقى جوار زوجها و الوقت المتبقي لن يسمح بحمل أبيه، نظر نائل الى اهله نظرة أخيرة و مرت معادلة سريعة في ذهنه ، فهو الوحيد بين أخوته صاحب وظيفة ثابتة ذات دخل قليل الا انها تكفي حاجة السؤال و لو حدث له شئ فمعنى ذلك ان اخوته الصغار و اخواته البنات و اخاه الرضيع سيؤلون الى ضياع او الى مد أيديهم في أفضل الأحوال ، انهمرت دموعه و أشاح بوجهه و أطلق لساقيه العنان ليسابق الثواني الباقية في الخروج من المنزلا إلا انه لم يكد يخطو أول سلمه خارج المنزل حتى وجد جسده و قد طار بعيدا و حلق في السماء للحظات قبل ان يسقط على ظهره وسط دوي هائل و سحب من الغبار و الحجارة الصغيرة التي يبدو و كأنهاتسابقت فيما بينها على تمزيقه في مشهد كانأشبه بالجحيم على سطح الأرض ، و كاد يختنق و هو يعب الهواء عبا في جشع محاولا ايصال اكبر كمية من الاوكسيجين لصدره و نفض الغبار عن عينيه و هو يلقي نظره على بيته و قد عجنت حجارته بدماء وأشلاء ابويه الزكية ، ووقف مشدوها و قد ذهب لبه من الاحداث التي سلبته حياته كلها في ثواني معدودة ، و ألقى نظره على اخوته ليجد البنات منخرطات في بكاء و عويل عالي و هن يحملن جثة اخيهم الرضيع الذي لم يحتمل تبعات الانفجار و ينظرن بقهرالى الركام الذي كان منذ لحظات بيتا و أشلاء كانت منذ لحظات أهلا ، ليصرخ نائل بكل قوة " سأنتقم منكم يا صهاينه يا كفار " القصة مستوحاه من قصة حقيقية حدثت لعائلة فلسطينية في القطاع و هي واحدة من عشرات القصص المشابهة لما يفعله الكيان الصهيوني في أبرياء غزة حيث يعتبرهم حقل تجارب و يتسلى عليهم بإلقاء القنابل على أم رءوسهم ، نائل و اخوته هم ضحايا عنف الكيان الصهيوني و الذين بكل تأكيد سينضمون الى المقاومة و سيربون جيل كامل من الابطال لا يخاف أو يهاب الموت . و الرسالة التي أرسلها الكيان الصهيوني هي روتين يلتزمون به تارة لإخطار الضحايا و تارات أخرى لا يكلفون أنفسهم حتى عناء ارسالها ، و رسالة الهاتف الجوال بحد ذاتها غريبة فقد جاء في نصها " سنقوم بضرب منزلك بعد 10 دقائق " فما الذي فكر به الصهاينة و هم يرسلونها ، ماذا لو لم يقرأها أصلا المرسل اليه الرسالة ، و لو قرأها فهل كان سيكفيه الوقت ان يضع عليه ما يصون كرامته هو واهل بيته قبل الفرار من المنزل؟ هل سيكفيهم أن يحزموا أمتعتهم و أوراقهم المهمة و نقودهم ؟ أم المقصود بها أن يعيش الفلسطينيون في قلق دائم مخاصمين ملابس البيت مستعدين و مهيئين نفسيا للموت او خراب البيوت ؟ و يا ليت معاناتهم وقفت عند هذا الحد أو وجدت صدى او حتى شجبا من اخوانهم كما اعتادوا سنوات طويلة بعمر الاحتلال كونهم ظاهرة صوتية ، و لكن يبدو أن حتى هذه الظاهرة انكتمت او تحولت الى ظاهره أخرى في لوم الضحايا و الشماته بهم كما فعل اعلاميون مصريون و خليجيون للأسف . هل ما نشهده هذه الأيام ينبئ باقتراب الساعة بعد أن اختلطت مفاهيم الحق و الباطل في أذهن العديد من الناس و أصبحوا لا يرون الحق حقا و لا الباطل باطلا ، و أضحت الدماء و الضعف و الهوان لها من يبررها بعد أن كانت من المحرمات ؟ كابوس نعيش فيه من هول الأحداث ومن هول سواد الضمائر و والأخلاق .