كتبت - فاطمة الدسوقي: في انحناءة العجز والكبر شقت العجوز ساحة المحكمة, وتعلقت بها الانظار.. فقد أحني الدهر ظهرها, وزحف لهيب الشيب علي رأسها وتحول وجهها إلي خارطة مليئة بالوديان والأخاديد وثارت التساؤلات في الأذهان وأعتقد البعض أنها جاءت تشكو عقوق أبنائها, وآخرون ظنوا انها حضرت لتطلب ميراثها من زوجها المرحوم حتي فجرت الجدة المفاجأة التي أوجعت قلوب الحضور! بشفاه ترتعد سردت العجوز تفاصيل رحلة زواج عمرها نصف قرن ذهب فيها شبابها بلا رجعة وودعت الفرحة والضحكة إلي مثواهما الأخير بعد أن أثقل زوجها كاهلها بهموم الفقر والمرض وطابور الأبناء وهو في غفلة من الفقر الذي أحاط منزلهم بسياج من حديد وفي النهاية لقنها درسا في النذالة لن تنساه أبد الدهر! بيد ترتعش توكأت العجوز علي عصاها, وهي تلملم أشلاء ما تبقي في نفسها بعد أن غرس شريك العمر نصل سكين بارد في قلبها الهرم وتناسي أنها كانت السند والرفيق وشريكة العمر ودهس بقدميه ذكريات نصف قرن من الزمان. انسابت الدموع علي وجنات العجوز فقد مرق أمام عينيها شريط من الذكريات جلب لها الحسرة واللوعة وقالت: سيدي القاضي أرجو أن يتسع لي صدر عدالتكم فأنا من جعل الله الجنة تحت أقدامها فقد كرمني المولي وأهانني شريك العمر لانني صرت أرضا بور جدباء لاتثمن ولاتغني من جوع وأصبحت له مثل خيل الحكومة التي عفي عليها الدهر ولابد أن يكون مصيري القتل أو الطرد في الشارع. فقد تزوجته ياسيدي وهو مزارع بسيط يعمل أجيرا لدي الاثرياء من أهل قريتنا بمحافظة الغربية ولايملك قوت يومه.. الفقر كان رفيقنا والجوع كان أنيسنا والملابس المهلهلة كانت لاتعرف لها طريقا سوي أجسادنا, وعشت معه في حجرة داخل منزل عائلته وكنا نتقاسم كسرة الخبز ورشفة المياه وكنا نستدفيء بأنفسنا في ليالي الشتاء القارسة واتفقنا أن نصارع الزمن ونهزم الفقر وخرجت معه في الحقول أجمع الثمار تارة وأزرع الارض تارة أخري وبعد شقاء اليوم الطويل كنا نفترش الارض ونروح في النوم العميق حتي رزقتنا الاقدار بابننا الاول ثم الثاني والسادس والسابع, فقد كان زوجي يعشق العزوة ويذكرني أن كل مولود يأتي برزقه والارض تسع من الحبايب ألف وكما أثقل كاهلي بالفقر أثقلني بالانجاب المتكرر أنجبت تسعة من البنين والبنات وحتي لاينالوا نفس المصير الاسود صممت ان أتفاني لتعليمهم وتوصيلهم لبر الآمان فكنت في النهار أعمل في الحقول وفي المساء أعد الخبز للسيدات الثريات من أهل القرية حتي اشتد عود أبنائي وبعضهم التحق بالجامعة وآخرون, حصلوا علي الشهادات المتوسطة وابتسمت لنا الأقدار وبدأ زوجي يستأجر الاراضي الزراعية ويزرعها لحسابه ويجني المحاصيل ويبيعها للتجار وجمع الاموال واشتري الاراضي حتي أصبح من كبار تجار الفاكهة والخضراوات بالغربية وتزوج الابناء واصبح لدينا طابور من الاحفاد وتوفرت لدينا كل سبل الراحة والرفاهية ولم يدر بخلدي أن الاقدار تخفي لي ما سيزلزل كياني ويدمر وجداني فقد طرق المرض بابي وأصابني الكبر وبدأ زوجي يسأم مني ويعايرني وتناسي رحلة شقاء عمرها خمسين عاما وذات يوم لم تشرق فيه شمس النهار فوجئت به يدخل بيت الزوجية وتتعلق في يده فتاة أصغر من بناته وأصوات ضحكاتهما ترن في البيت فتسمرت قدماي وقد صبغ شعره وارتدي ملابس الشباب وأنطلقت من بين ضلوعي صرخة أفزعته وسألته بجنون من هذه الفتاة؟ ولماذا اقتحمت العش الهادئ ؟ فاذا به يصفعني علي وجهي ويطلب مني تقبيل يدها والتفرغ لخدمتها لانها أصبحت سيدة البيت تأمر وتحكم وتنهي وليس علي إلا الطاعة وإلا سيكون مصيري الشارع لتنهشني الكلاب الضآلة ارتميت علي حذائه أقبله وتوسلت اليه أن يتركني بمفردي في بيتي وليهنأ مع عروسه في أي مكان آخر إلا أنه رفض ولكي يرضي صغيرته طلقني وألقي بي في الشارع ولما زاد الطين بلة سيدي القاضي أن أبنائي خشوا حرمانهم من الميراث فأسرعوا لمباركة زواجه ولم يعاتبه أحد منهم علي الجرم الذي ارتكبه في حقي. سيدي القاضي لقد تخلي عني أبنائي وأعطوني ظهورهم وهرولوا خلف المال والجاه بعد أن سلبني أبوهم حقي حتي في الحياة وأنا أطلب من عدالتكم الإنصاف فقد طلقني بدون رضاي ودون سبب مني وأطلب نفقة متعة عن زواج دام خمسين عاما ونفقة زوجية ومسكن يأويني فأنا الآن في أرذل العمر ولايرضيكم أن افترش الارصفة وأتسول قوت يومي. ثم انخرطت في بكاء مرير حتي أبكت الحضور وبعد مداولات وجلسات تيقنت المحكمة أن تلك العجوز أفنت سنوات عمرها في خدمة رجل وأبناء ضلت الرحمة والانسانية طريقها إلي قلوبهم وقضت برئاسة المستشار محمود خليل رئيس محكمة استئناف طنطا للاحوال الشخصية بالزام الزوج بدفع مبلغ مائة ألف جنيه نفقة متعة لمطلقته وثلاثة آلاف جنيه نفقة شهرية والزام الأبناء بتوفير مسكن لوالدتهم وأخذ التعهد عليهم بحسن معاملتها ورعايتها.