ماذا يحدث عندما ينشأ الشاب في وطن لا يمنحه حقوقه في التعليم والعمل والسكن والمشاركة والاحترام ؟ وكيف نطالبه بعد أن تطول المدة وينفد الصبر بالشعور بالانتماء والولاء لهذا الوطن ؟ منذ سنوات فقد شباب مصر انتماؤهم للوطن وصاروا للمرة الأولي ربما في التاريخ يصرحون بذلك بالقول والفعل ، فهم يغامرون بحياتهم نفسها في قارب مفارق للوطن في رحلة هجرة غير شرعية بحثا عن حياة آمنة و آدمية لم يحصلوا عليها داخل وطنهم المنهوب والسليب . عندما يختفي الولاء للوطن تظهر الولاءات الأولية وتقوي ، ذلك لأن الشعور بالانتماء حاجة فطرية لابد منها ، وبالتالي ظهرت أفكار التعصب الطائفي وأخذت تقوي وتشتد حتي باتت تهدد اليوم باحتراق الوطن كله بمن فيه ، لن أتحدث عن حكايات ( رغدة وعبير ) ذلك لأننا لو استمر التصعيد بهذا الشكل سنصبح جميعا رغدة وعبير . رغدة وعبير صارا رمزا لمحنة هذا الوطن عندما تتصارع ديناصورات الفتنة الطائفية وتهرس تحت قدميها أجمل و أرق ما في الوطن (نساؤه وفتياته ) وليس ضروريا أبدا أن تتعمد المرأة هنا الزج بنفسها في أتون الأحداث بل يكفي فقط أن تسير غافلة وبريئة علي ضفاف النيل كما فعلت رغدة ،أو تسعي لأن تنقذ حياتها المدمرة وتختار شكلا آخر من الانتماء ارتاحت له واطمأنت نفسها كما فعلت عبير لتجد نفسها قد دخلت الجحيم ولن تعرف أبدا كيف تخرج منه . الشباب المحروم من كل حقوقه في الحياة الفطرية والاجتماعية كان هو الحطب الذي امتلأت به الطرقات ، وعندما أقول الشباب فأنا أقصد كل شاب مصري سواء كان مسلم أو مسيحي أو حتي بلطجي ، ولي هنا وقفة وتساؤل عندما نتحدث عن البلطجية من نقصد ؟ هل هم شباب من كوكب آخر ؟ أم هم شباب مصري غض حرم من كل شئ ولم يحصل في حياته إلا علي القمع والفساد والعنف ؟ بعض هؤلاء الفتية المقبوض عليهم في الأحداث الأخيرة لا يتجاوز الخامسة عشر فهل نصف هذا الطفل الكبير بأنه مجرم عتيد الإجرام أم نصلحه ؟ أما الإعلام فقد تولي مهمة إلقاء البنزين علي الحطب حتي تشبع به تماما ، ولذلك تكفي دائما شرارة صغيرة لتندلع الأحداث التي تبلغ في حماقتها حد الجنون ، وأشد أنواع الجنون و أخطرها علي الإطلاق هو التعصب الذي يعمي ويصم ، وتعصب الأقلية يكون أكثر تطرفا . تنوعت دوافع الإعلام للعب بنار الطائفية بين مجرد الرغبة في تحقيق الإثارة والرواج والنجاح المهني الضيق إلي تحقيق مصالح و أجندات لأطراف داخلية وخارجية والخاسر دائما هو المواطن الشريف البسيط الذي لا يحتمل المزيد من الأخطار لتزيد حياته صعوبة وضيقا والخاسر الأكبر هي مصر أمنا الجريحة التي تعبت من عبث أولادها وتشتتهم . بارقة أمل سطعت أمامي من كلام بعض الحكماء عن أن هذه النقطة التي وصلنا إليها قد تحمل بوادر الانفراجة ، إذ يعتقدون أنك لكي تعرف كيف تعمل الأشياء ينبغي أن تفحصها في ظل ظروف حرجة ، وأنه عندما تندفع المفاهيم إلي حدودها القصوي لتصل إلي فكرتين متضادتين متطرفتين ، تأتي عبقرية البشر في إدماج وجهات النظر المتباينة والمتضادة في قانون جديد يجمعهما معا ، ومن خلال إدماج رؤي ووجهات نظر متعددة تتكشف أمام عيوننا البنية العميقة الكامنة تحت السطح للأفكار ويمكن في تلك الحالة وضع قوانين توضح الحدود وتنص علي حقوق وواجبات الطرفين . كمثال توضيحي بسيط تحدث أحيانا داخل البيوت وبين زوج وزوجته مناوشات ومشاكسات يتم التغاضي عنها دون تصفيتها ويبدأ الطرفان في تكوين أفكار كارهة تجاه الآخر وبعد مدة من الشحن والتحفز يحدث الانفجار الكبير في شكل خناقة مدوية ينطلق اللسان فيها بالتهديد والوعيد وتتصاعد بشكل مخيف ، ولكن الغريب أنه بعد هدوء العاصفة كثيرا ما يحدث تصالح علي أسس جديدة ويبدأ عهد جديد أكثر نجاحا وصفاء مما سبق ، بعد أن عرف الطرفان أن لكل منهما أخطاؤه وعيوبه ومميزاته أيضا وأنهما شركاء معا في حياة واحدة لا يمكن فصمها وتمزيقها و أن الأفضل هو التعايش باحترام متبادل للحدود والحقوق والواجبات . يبرز هنا وبشدة دور الإعلام الذي يجب أن يعلي أمانة الكلمة والحفاظ علي الوطن والانتماء إليه ونبذ الشائعات والعمل من أجل مصلحة المواطن البسيط ، وألا يفرح بنبأ يشعل فتنة ويسارع بإبرازه بشكل تحريضي في الصفحة الأولي ، وألا يجري وراء إرضاء الناس باستمالتهم عاطفيا ونفسيا بكلام يؤجج مشاعرهم ويحفزهم ضد شركاء الوطن ولنتذكر جميعا أن الله سبحانه وتعالي مطلع علي نوايانا وسوف يحاسبنا علي كل كلمة تخطها أقلامنا وأن أول الحرب الكلام . ليست الشجاعة في شتم النصاري لوكنت مسلما أو العكس فهذا لن يكلفك شيئا ، ولكن كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ) من أمانة الكلمة أيضا أن نعيد النظر في أداء كل قادة الرأي والمؤثرين ممن يظهرون علي الشاشة سواء دعاة أو إعلاميين أو فنانيين أو رياضيين في أن يتجهوا لبث مشاعر الحق والخير والجمال والتي تم تجفيف منابعها علي مدي عقود سابقة ، فإن الغلظة والعنف والبلطجة التي نعاني اليوم ويلاتها هي حصاد السنين العجاف الماضية والتي كانت أفلامها مثلا تبرز البلطجية والمزورين والمهمشين أبطالا وتبث روح الهمجية وانعدام القيم ، مرة أخيرة الكلمة أمانة فلنتق الله فيها . [email protected]