لاشك أنَّ قضية إسكان الشباب إحدى المشاكل العظيمة التي تواجه الأمة المصرية، حيثُ يعاني الواحد من شبابها أشد العناء في رحلة البحث عن مسكنٍ يؤويه، في الوقت الذي نجد عشرات المساكن خالية لا يسكنها أحدٌ. ويمكننا أن نستجلي أسباب ومقترحات علاج هذه المشكلة من خلال دراسة ما جرى في عددٍ مِن المدن المصرية، حيثُ سمحت الدولة بزيادة حجم بعض المدن إلى ضعف حجمها القديم أو قريبًا منه، وذلك على حساب الأرض الزراعية المحيطة بالمدينة في أحيان كثيرة، كما هو الحال في مدن الدلتا خاصة؛ كالمنصورة وبنها والمحلة الكبرى وكفر الشيخ، وقد تم البناء على عشرات الأفدنة الزراعية، وتنتظر عشرات أخرى البناء عليها، ورغم هذا الاتساع الهائل فقد تعقدت مشكلة الإسكان في هذه المدن أكثر من ذي قبلُ. حيثُ قامت الدولة بتحديد «كردون المباني»، وتم إدخال بعض الأراضي الجديدة لم يكن مسموحا بالبناء فيها إلى المساحة السكنية المسموح بالبناء عليها، وأحيانًا كثيرة تم توزيع هذه الأراضي على العاملين بأجهزة الدولة، فأخذ كل جهازٍ قطعة من الأرض، يوزعها بدوره على أفراده العاملين فيه، فأخذت المحافظة قطعة، والمحكمة قطعة، وهكذا، وانتشرت لافتات في وسط الأرض الزراعية تعلن أن هذه القطعة هي لجمعية العاملين بمديرية الزراعة، وهذه لجمعية العاملين بالمحكمة، وهذه لجمعية العاملين بالكهرباء، وهذه وهذه، فأولا: حُرِم غير القادر من توفير مسكن له، بينما هو يرى الأرض تُوزع من حوله على الموظفين العاملين في الدولة، الذين يتقاضون راتبًا شهريا، يعينهم على الحياة، فارتفعتْ أسهم الموظفين، وازداد الفقير فقرًا، وثانيًا: بدأ الموظفون في بيع هذه الأراضي أو الأسهم التي تملَّكوها بمبالغ قليلة تم دفعها على أقساطٍ أيضًا، ثم باعوها هم بأضعاف أضعاف ما دفعوه في أثمانها. فضاعت على الدولة هذه الإضافات والارتفاعات في الأثمان، وانحصرت المساكن في يد فئة من الناس، كانت سببًا في ثراء بعضهم، بينما ظل الشباب المسكين عاجزًا عن توفير مسكنٍ له. والحل المقترح لهذه الأزمة: أولا: أن يتم وقف البناء على ما تبقى من هذه الأراضي الزراعية التي أُدخِلَتْ ضمن «كردون المباني» وهي كثيرة، ويتم سحبها مِن الجمعيات أو الموظفين الذين أخذوها وإعادة ما دفعوه لهم مرة أخرى، على أن يتم عمل لجان تقوم بدراسة كيفية هذه المسائل واتخاذ ما يلزم بحيثُ لا يلحق هؤلاء أو غيرهم من الناس ضرر فادح، ويتم سحب الأراضي وبناء مساكن للشباب عليها، تكفي لحل أزمة الشباب في هذه المدن، بل وربما في مدن أخرى مجاورة لها، نظرًا لضخامة المساحة الموجودة المتبقية، والتي تم توزيعها على «الجمعيات» التي وزعتها بدورها على أفرادها العاملين في الجهة التابعة لها «الجمعية». ويمكن أن تُحل هذه المشكلة بطريقةٍ أخرى نستطيع من خلالها الحفاظ على الرقعة الزراعية المهمة لمصر، وهي أن يتم سحب الأراضي والأسهم المشار إليها آنفًا من «الجمعيات» أو الأشخاص الذين تسلموها، في أي مكان في مصر، ويتم تعويضهم عنها باستلام قطع مماثلة أو أكبر حجمًا من تلك التي تسلموها ولكن في غير الأراضي الزراعية؛ كأن يتم تسليمهم البديل المناسب في أطراف المدن الصحراوية، أو في مدنٍ جديدة يتم استحداثها، وبهذا نكسب الإبقاء على الأرض الزراعية من جهة، كما نكسب مادة جيدة للمدن الجديدة من جهة ثانية، ونساهم في حل مشاكل الإسكان أيضًا من جهة ثالثة، حيثُ سينتقل هؤلاء أو بعضهم للأماكن الجديدة بما يساهم في زحزحة المشكلة السكانية بشكلٍ ما. وعلى صعيدٍ آخر يتم تقييم الأراضي التي تم البناء عليها، ومطالبة أصحابها بفارق السعر بين قيمتها الحقيقية وبين ما دفعوه، ولن يُضار هؤلاء في شيءٍ لأن هذه الأراضي قد بِيعت في الأغلب بأضعاف قيمتها التي دُفِعَتْ فيها. والحقيقة إنه لا مناص من السير في هذين الاتجاهين تحقيقًا لمبدأ العدل والمساواة، وحفاظًا على أملاك الدولة. وإذا كنا سنجني من وراء هذا القرار الشجاع مئات الآلاف من الوحدات السكنية؛ فإننا سنجني من ورائه أيضًا مئات الآلاف فارق سعر ما تم البناء عليه، يمكن أن يكون هذا الفارق في السعر مادة جيدة لتمويل بناء الوحدات السكنية التي تتوفر. ولاشك أن أصحاب هذه الأراضي قد صارت لهم مراكز قانونية نشأت لهم، غير أن هذه المراكز قد بُنيت على غير أساس من العدل والمساواة، بل هي عملية أقرب للطبقية منها إلى العدالة الاجتماعية؛ حيث تخص أفرادًا بمزايا دون غيرهم، بل تخص الأغنياء بما يزيد غناهم، بينما يظل الشباب المسكين كما هو، حتى يقتله البحث عن مسكنٍ له، أو يصيبه اليأس من ذلك فربما تصرف تصرفًا دُفِع إليه دفعًا بفعل هذه التصرفات التي يراها ويبصرها ولا يملك حيلة أمامها. وثانيًا: يتم فتح باب استثمار القطاع الخاص في بناء هذه المساكن للشباب، بحيثُ يمكن الانتهاء منها بسرعة كبيرة، عن طريق تمويل القطاع الخاص لها، وتتحمل الدولة الجزء المدعم الذي تتحمله الآن، ولا تزيد على الشباب شيئًا، فيقوم القطاع الخاص بالبناء على أن تسدد له الدولة تكاليف هذه المباني على دفعات ميسرة، لا ترهق الدولة، وتساهم في سرعة حل المشكلة وبناء المساكن بشكل عاجل، وتتولى الدولة تحصيل المبالغ التي يدفعها الشباب على أقساط ميسرة بحيثُ لا ترهق كاهل الشباب أيضًا. فإذا كان الشاب يدفع خمسة آلاف جنيه عند حجز «الشقة» في مساكن الشباب، وثلاثين ألفًا عند الاستلام ليتملكها، فلاشك أن هناك الكثير مِن الشباب لا يتمكن من توفير الثلاثين ألفًا عند الاستلام، مما يضطره للتنازل عن مسكنه هذا، في مقابل الحصول على مبلغ زهيد نظير التنازل عن هذا المسكن الجديد، ويتولى المشتري تسديد الثلاثين ألفًا المذكورة، وعادة ما يكون هذا المشتري تاجرًا يحتكر هذا المسكن بعض الوقت ثم يبيعه بأضعاف سعره الأصلي، وتبقى مشكلة الشاب المسكين كما هي بلا حلٍّ. ولهذا لابد من تسهيل سداد هذا المبلغ على ثلاثة أعوام أو ما شابه، حتى يتسنى للشاب توفير المبلغ المطلوب، بدلا من اللجوء لتقسيط السعر على مبالغ شهرية على نحو عشرين سنة (كما هو الحال عند عدم مقدرته على سداد المبلغ المذكور عند الاستلام) مما يجعل الشاب مطالبا بمبالغ طائلة لتوفير حاجته الشهرية وأقساط مسكنه وربما أقساط أخرى قد يضطر إليها، ومثل هذا المحاصر بهذه الأقساط والهموم لا يمكن أن يكون عضوًا مُبدعًا في الحياة المصرية، بحيثُ يؤثر في بناء الدولة المصرية العظيمة، هذا .. إن لم يكن متاحًا تخفيض هذا المبلغ، خاصة وهو مبلغ كبير جدا بالنسبة لشاب محدود الدخل في مقتبل عمره، ولهذا أرجو أن يُعاد النظر في هذا المبلغ ويتم تخفيضه. ثالثًا: ومن الحلول المقترحة أيضًا لحل مشكلة إسكان الشباب: ضبط أسعار إيجار أو تمليك المساكن بما يتناسب مع حالة كل مدينة، فمثلا تشتهر بعض المدن بكونها مدينة زراعية بالدرجة الأولى، فلا توجد بها حركة صناعية أو تجارية، ففي مثل هذه الحالة لابد من ضبط أسعار إيجار أو تمليك المساكن بناء على متوسط دخل الفرد في هذه المدينة، فلا يكون سعر الإيجار أضعاف أضعاف متوسط دخل الفرد، وبناء عليه تتم دراسة حالة كل مدينة حسب متوسط دخل الفرد فيها، ووضع حد أقصى لأسعار الإيجارات السكنية بل والتمليك أيضًا في هذه المدينة بناء على هذا المقياس. رابعًا: يتم دعوة أصحاب المساكن الخالية إلى ضرورة تسكينها، وتوعيتهم إلى ما في ذلك من نتائج عظيمة على الأمة المصرية، ولابد من تبني أصحاب المنابر الدعوية والإعلامية والجامعية وغيرها من المنابر لهذه الدعوة، بحيثُ يتم نشرها في الناس ويتم توعيهم لفوائد مبادرتهم بتأجير مساكنهم الخالية، أو التسهيل في بيعها، و«رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى». خامسًا: استحداث مدن جديدة في صحراء مصر الشاسعة، مكتملة الخدمات، والمصالح الحكومية والخاصة، بل والمناطق الصناعية والإنتاجية وغيرها، ويشترط لتولي الوظائف الحكومية أو العمل في هذه المصانع؛ أن يكون العامل من أبناء هذه المدن، كما يتم تخفيض أسعار المساكن فيها، والتيسير في سداد المبالغ المستحقة عليها، ليحصل الإغراء الكافي للشباب للانتقال لهذه المدن الجديدة، والمقصود من وراء هذا الشرط هو توفير المساكنالجديدة لمن لا يملك، مع توفير الوظائف وتشغيل الشباب بما يساهم في حل مشكلة البطالة، بل ويتم نقل العاملين في أماكن أخرى إلى العمل في داخل هذه المدينة بمجرد حصولهم على مسكنٍ فيها، ويتم تشغيل آخرين في أماكنهم القديمة. سادسًا: لابد من وضع القيود والقواعد الصارمة لمنع تسرُّب المساكن الخاصة بالشباب إلى المستثمرين أو غيرهم من غير المستحقين لها. وتبقى هذه مجرد أفكار قابلة للخطأ والصواب، يمكن أن نتفق أو نختلف فيها، وليست ملزمة لأحدٍ، غير أنه يجب علينا في هذه المرحلة أن نتبادل أطراف البحث ونفكر معًا ويصحح كل واحد منا خطأ الآخر. والله من وراء القصد، وهو سبحانه الموفِّق والمستعان.