قبل أكثر من سبعين عاماً قالها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي" إذا الشعب يوماً أراد الحياة" فجابت تلك الكلمة بقاع الدنيا معلمة الشعوب درساً في الحرية وكرامة الإنسان لتعود بعد عقود سبعة الى موطنها الذي إنطلقت منه وتعيد للشعب التونسي كرامته التي سلبت منه لربع قرن . كنا نتابع الأحداث مع زملائي ودار نقاش حاد بيني وبين أحد الزملاء الذي أُكنُّ له كل الحب والإحترام - إُخوّة وزمالة- إذ أصر على أن ما حدث في تونس لا يعدو كونه سحابة صيف سرعان ما ستنجلي ، وكان دليله في ذلك أن بن علي له من القوة ما تمكنه من سحق هؤلاء في ليلة واحدة، لكن الذي غاب عن صاحبي وزميلي أن إرادة الشعوب هي أقوى من كل قوة على هذه الارض، وإن رضيت الشعوب يوما بالذل والهوان فإنما هي شذوذ عن القاعدة ، فنيران الثورة ضد الظلم والطغيان كامنة في القلوب لابد أن ياتي يوم تثور فيه مهما طال الزمن وإن ظن البعض أن هذه الأمة قد ماتت فهم واهمون ؛ نعم قد تضعف ويصيبها الهوان من جراء ما يقع عليها من جور وطغيان؛ إلا أنها لن تموت .فها هي تونس التي قال الجميع أنها أصبحت في خبر كان وكُبير عليها أربعاً على ما لاقت من إرهاب على يد بن علي وجلاوزته، فمنعٌ للحريات ومصادرة الآراء وخطف الأرواح والتنكيل بالمعارضين ومنع القنوات من التواجد على الأرض التونسية خوفاً من فضح ممارسات النظام الحاكم ، وهنا لابد من تسجيل كلمة تقدير لقناة الجزيرة التي ساهمت بشكل كبير في إنجاح تلك الثورة الشعبية والتي كانت هي إحدى ضحايا ممارسات النظام، حيث أغلق مكتبها هناك وسحبت تراخيص مراسليها، موقف يضاف الى مواقف الجزيرة في دعم مواقف الأمة وإيصالها لعالم والمساهمة وفي تحريك الراي العام. فلم يكن الحال كذلك قبل ثورة الفضائيات التي فضحت الأنظمة وممارساتها بحق الشعوب ، لذلك كان الحكام من أشد منتقدي ذلك الإنفتاح الإعلامي الذي يرون أنه يقوض حكمهم . حين سمعت الخطاب الثالث للرئيس التونسي بن علي وقد بدا وكأنه يتوسل بالشعب ليهدأ.. وظهر ضعيفا بشكل واضح ،علمت أنه راحل لا محالة، فقمت وسجدت لله شكرا .. ليس لأنني تونسي ووقع علي من الضيم والقهر ما وقع عليهم؛ لكن ربما ان هذا ما كان بوسعي ساعتها فعله مواساة للمضطهدين وفرحا برفع الظلم عنهم. فمالذي حدث حتى يتغير الوضع فجأة الى هذه الدرجة ، أين ذهبت قوة وظلم بن علي ؟ وأين ذهبت أجهزته القمعية التي مارست قمعها ضد المواطن التونسي لأربع وعشرين سنة؟ وما هي الشرارة التي أشعلت جذوة الثورة في نفوس التونسيين بعد هذا السبات الطويل؟ أتراها نيران الشاب بو عزيزي الذي ضاق به الحال ولم يجد بداً من إيقاد النار في جسده؟ أم هي وحدة المواقف بين الشعب والجيش يوم أن تخلوا جميعا عن نظام بن علي؟ دروس بالغة الحِكم لابد للشعوب العربية قبل غيرها أن تقف عندها طويلا ، فليس بالخبز وحده يحى الإنسان .. وأن طريق التحرر لابد أن يكون معبدا بالتضحيات. كاتب واعلامي عراقي