أقول وبمنتهى الوضوح: إن الإجراءات المتبعة من قِبَل نظام السيسي، من أول فض اعتصام رابعة، مرورًا بقانون التظاهر، حتى اعتبار جماعة الإخوان تنظيما إرهابيًا لن تحل الأزمة السياسية في مصر. الأزمة في مصر هي أزمة سياسية بالأساس أيا كان القول في منشأها، وأيا كانت شقة الخلاف بين أطرافها. الأزمة في مصر هي أزمة سياسية، والأزمات السياسية لا تحل إلا بأدوات ووسائل سياسية، هكذا علمتنا تجارب الأمم، وتواريخ الشعوب حولنا وفي مختلف بقاع الدنيا. الأزمات السياسية لا يمكن حلها بوسائل أمنية، لأن الوسائل الأمنية تزيد الأزمات السياسية اشتعالا، خاصة تلك الأزمات التي لها أبعادًا وجذورًا اجتماعية. العقل الأمني لا يعرف إلا مفاهيم الضبط، والوضع تحت السيطرة، وإصدار الأوامر، وما يتبعه من إلقاء القبض على المخالفين، وكيل التهم لهم وتظبيط القضايا والأحكام. العقل الأمني لا يتعامل مع المخالفين باعتبارهم خصوم سياسيين، إنما يتعامل معهم باعتبارهم مجرمين، وكانت قمة المأساة إصدار قانون يقضي بأن جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيًا، في شطط ورعونة لا يليقان بمن يريد حل أزمة سياسية بالأساس، وفي سابقة لم تحدث في تاريخ النظام السياسي المصري منذ الملك وحتى مبارك. نظام السيسي ولسيطرة العقل الأمني والمخابراتي عليه لم يستطع مواجهة الأزمة السياسية في أصولها وجذورها، ولم ينجح في استخدام الأدوات والوسائل السياسية: كالتفاوض والحلول الوسط ومناهج احتواء الأزمات، فتعامل معها باعتبارها أزمة أمنية، الخصوم السياسيون فيها مجرمون، وأقصى من ذلك جعلهم إرهابيين، فلم يحل الأزمة بل زادها استفحالا. نظام السيسي ولسيطرة العقل الأمني والمخابراتي عليه لم يتعامل مع جذور الأزمة السياسية، بل تعامل مع أعراضها الأمنية، ومظاهرها من حيث قدرات الدولة على الضبط والسيطرة، وتزايد مساحات الاضطراب في الشارع، وفي سبيل ذلك لم يتورع عن الاستعانة بالبلطجية والمسجلين خطر الذي أصبح يسميهم إعلام العار المواطنون الشرفاء والأهالي. نظام السيسي ولسيطرة العقل الأمني والمخابراتي عليه لم ير جوهر الأزمة، إنما رأى أعراضها، فاشتغل على مدار خمسة أشهر على الأعراض، ولم ينجح ولن ينجح ولو ظل خمسة سنين. الأزمات السياسية تحل بأدوات ووسائل سياسية، أما قهر الخصوم السياسيين فيزيدهم إصرارا إذا كانوا أصحاب قضايا حقيقية، ومن خلفيات عقائدية وفي قضية مظلومية حقيقية: تم السطو فيها على منصب رئيس الجمهورية بالقوة المسلحة بعد توظيف الغضب الشعبي من سوء إدارته، لكن اغتصاب السلطة هذا لم يكن لوجه الله أو الوطن إنما كان لأغراض شخصية، تم عزل الرئيس المنتخب ثم سجنه ومطاردة أنصار جماعته بل والطامة الكبرى تحويلهم إلى إرهابيين ظلمًا وزورًا. الأزمات السياسية تحل بأدوات ووسائل سياسية، أما إقصاء الخصوم وإلغائهم فهو ظن السوء بأن ذلك يسهل معركة القضاء عليهم. الأزمات السياسية تحل بأدوات ووسائل سياسية، فلا قضاء بات على المخالفين –وإن قدرت عليه- ولا نفي للخصوم من الساحة –وإن استطعته-. أما دعوات شيطنة المخالفين ودفعهم دفعا إلى العنف، فهو أحد مخرجات العقل الأمني والمخابراتي الذي يسيطر على نظام السيسي. إن شيطنة المخالف هي المرحلة الأولى لانتهاكه واستحلاله، بل ونزع صفة الإنسانية عنه: فلا يعد حرق جثثه جريمة حرب. ولا يعد استخدام أسلحة محرمة دوليا ضد متظاهرين سلميين جريمة حرب. ولا يعد ترويع الآمنين وانتهاك إنسانيتهم جرائم ضد الإنسانية. ولا يعد تخويف بقية الشعب وخاصة أصحاب الرأي فيها واتهامهم بأنهم طابور خامس إذا أظهروا تعاطفهم مع المظلومين –ولو اخطأوا- قضية كبت للحريات العامة، وحكم بالحديد والنار، بل حكم بالحديد والدم. الأزمة في مصر سياسية، والأزمات السياسية لا تحل إلا بأدوات ووسائل سياسية، فلا يصلح في مواجهتها الأساليب القانونية التي كثرت حتى ابتذلت، وغدا القضاء طرفا في معركة سياسية، كان حري به أن يظل حَكمًا فيها. نظام السيسي ولسيطرة العقل الأمني والمخابراتي عليه يظن أن أدوات البطش وتغليظ العقوبات وانتهاك الحرمات سيحقق أهدافه في الضبط والسيطرة، لكن هيهات. التنظيمات العقائدية والأيديولوجية لا يصلح معها الأدوات والوسائل الأمنية، بل إن الضربات الأمنية تزيدها صمودًا، والاعتقالات والمشانق تزيد أتباعها إصرارا، اقرأوا إن شئتم تاريخ الإخوان المسلمين، وتاريخ الجماعات اليسارية في مصر والبلاد العربية. هذا قانون اجتماعي ثابت ومضطرد، وكما يقولون: مجرّب. إن سوء التقدير لكل عناصر الموقف الحالي في مصر أنتج لنا كل تلك الحلول الفاشلة، والتي ثبت فشلها ليس في مصر وحدها، بل وفي كل بلاد الدنيا التي جربتها، وفي كل النظم التي اتبعت الحلول الأمنية لمعالجة أزمات سياسية. وادرسوا جيدا التجربة الجزائرية على مدار أكثر من عشرة سنوات أطلقوا عليها: العشرية السوداء. ولا ينبئك مثل خبير. الأمن في بلادنا هو المشكلة الكبرى، ولم يكن حلا في يوم من الأيام. الأمن قد يكون أحد جوانب التعامل مع الأزمات، وليس الجانب الرئيسي فضلا أن يكون الجانب الوحيد. وكذلك القانون قد يكون أحد جوانب التعامل مع الأزمات، وليس الجانب الرئيسي فضلا أن يكون الجانب الوحيد. إقصاء الخصوم خرافة، خاصة إذا كانوا بحجم وكثافة انتشار التيار الإسلامي في مصر، وبالأخص منهم الإخوان المسلمين. والقبضة الأمنية وهم كبير، خاصة إذا كانت مع الجماعات العقائدية والتربوية. وإعلام العار يكذب مثلما يتنفس حتى فقد الناس الثقة فيه، ولم يصبح وسيلة معتمدة لتلقي الأخبار والمعلومات. الأزمات المركبة لا يصلح لها إلا حلول مركبة، أما النظرة أحادية البعد فقد أوصلتنا إلى طريق مسدود. الأزمات السياسية لا يصلح لها إلا حلول سياسية، أما الحلول الأمنية فقد استنزفت موارد الدولة، ولم تحل الأزمة، بل زادتها تعقيدًا. والهروب إلى الأمام، وخلق الوقائع على الأرض لن يحل الأزمة. لابد من مواجهة أصل الأزمة وحلها بالأدوات الوسائل التي هي من طبيعتها: الأزمة السياسية تحل بوسائل سياسية. التفاوض، والحلول الوسط، واستراتيجيات: فوز - فوز وليس فوز – خسارة، وصناعة البدائل، وتقديم الحلول والمخارج، ومحاولات الالتقاء في منتصف الطريق، ومحاولات تقليل الخسائر، واحترام الأطراف السياسية الأخرى، وفسح مجال لها للتعبير عن رؤيتها هي الحل، والله أعلم.