جاء قانون التظاهر -أو إن شئنا الدقة قانون منع التظاهر وتجريمه- ليثبت لنا فشل ما اتخذته السلطات الحاكمة -عنوة واقتدارًا- لبر مصر من خطوات وأساليب إدارة لا تحل جوهر ما دخلت فيه مصر من أزمة حقيقية على كل الصعد، وانقسام رأسي في المجتمع بل تعمقه. لقد أثبت التاريخ المصري القريب والمعاصر أن الأمن فيها ليس حلا بل مشكلة، وأن الأمن ليس قاطرة لإدارة دولاب الدولة بل كارثة توردها المهالك. لقد فشل الحل الأمني فشلا ذريعًا على مدار آخر عقدين من حكم مبارك، وفشل فشلا فادحًا على مدار عام ونصف هي فترة حكم المجلس العسكري، وكان الفشل حليف الحل الأمني أيضا عندما حاول الرئيس مرسي التلويح به، بحجّة أنه رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وعلى مدار مائة يوم هي عمر حكم السيسي فشل الحل الأمني والعقل الذي ورائه بجدارة منقطعة النظير خاصة منذ جريمة فض اعتصام سلمي (وإن شابه بعض أعمال العنف غير الممنهج، والتي لا تخلّ بجوهر سلمية الاعتصام). ومنذ هذه اللحظة المشؤومة في تاريخ مصر المعاصر وهناك سيادة عقيمة للعقل الأمني سواء في توصيف مشكلات البلد العميقة على كل الصعد، أو في الحلول المقدمة، أو في أساليب التعامل المقترحة ما تتصوره مشكلات. ورغم سيل الفشل المتلاحق، ورغم الإخفاقات المتوالية على كل الجبهات والجهات، ورغم ما أزهق من أرواح وضاعت من نفوس لم يفلح العقل الأمني، ولا أجهزته ولا حلولها في ضبط حالة الانفلات الأمني على مستوى القطر كله، وليس أدل على ذلك من سيل الدماء التي تسيل من جنودنا على أرض سيناء، وهم المنوط بهم تحقيق الأمن وحماية الحدود، بل وحمايتنا، فيعجزون حتى عن حماية أنفسهم. وكانت الكارثة الكبرى حينما تستعين الأجهزة الأمنية بجحافل البلطجية والمسجلين خطر على أمن المجتمع في ترجمة عملية لشعار الشرطة والبلطجية: إيد واحدة، وذلك في مواجهة المواطنين الحقيقيين الرافضين لسلسة الحوادث في مصر منذ يوم 3 يوليو، وخاصة من بعد جريمة فض اعتصامات رابعة والنهضة. إلا أن الكارثة الأكبر أن تسمّي أجهزة إعلام مغتصبي السلطة هؤلاء المجرمين بالمواطنين الشرفاء، في إهانة بالغة للمواطنين، وابتذال واضح لمعنى الشرف، في تكرار بالغ السوء وبالغ الغباء لتجربة الجهاز الأمني مع تجارة المخدرات، ونظام عزت حنفي في الصعيد، ونخنوخ في القاهرة. جاء قانون منع التظاهر بهذا الشكل الفج، رغم ما وعدت به السلطات الحاكمة اغتصابا للسلطة في مصر من أنها لن تصدر القانون إلا بعد أن تطرحه على الحوار المجتمعي، وتفاجئنا به السلطة كالعادة من سلوكياتها المشينة. جاء قانون منع التظاهر على هذا النحو في أجواء طبخ الدستور ليضفي على مجمل الحالة المصرية حالة من حالات تلاشي مفاهيم الشرعية والمشروعية، ليس فقط على مستوى التأسيس -حيث جاءت السلطة الحاكمة اغتصابا- وإنما أيضا على مستوى الممارسة، وكأن من جاء للسلطة اغتصابا لا يستطيع أن يعيش دون استمرار لحالة اغتصاب كامل للإرادة الشعبية بكل مظاهرها. وأخطر من اغتصاب الحاضر هو اغتصاب المستقبل، والذي يولد مشوها: نظاما ودستورا وقانونا، يعيش مشوها، ويستمر نظام مبارك وحالة التزاوج بين السلطة الغير شرعية، والمال الحرام. وعلى مدار عقودنا الطويلة منذ الانقلاب 1952 والفشل الشنيع للعقل الأمني متواصل، بل يخرج من فشل ليدخل في فشل أكبر منه، وتترى سيل المؤامرات، ونسج المؤامرات واصطناع الخصوم والأعداء ليستمر نظام الفشل. وبقدر ما تتعملق الأجهزة الأمنية لدولة بقدر ما تنهار معالم أركانها، ويا ليتها عملقة حقيقية توفر أمنا للمواطن، فحالها يقول أنها غلّبت ما يُسمى: بالأمن السياسي، وهو أمن الحاكم، على الأمن الجنائي الذي هو أمن المواطن العادي، الذي لم يأخذ من اهتمامها أدنى نصيب. وتحت مطارق الأمن السياسي الذي يوفر أمنا مزيفا للحاكم، واطمئنانا كاذبا لنخبته تزداد الاحتقانات والضغوط حتى إذا انفجرت الناس في الشوارع انهارت كل منظومتها الأمنية، وترك الضباط الأقسام والسجون ليرتع فيها المجرمون، وسادت حالة من الفراغ الأمني لم تعرف في تاريخنا حتى في حالات الاحتلال الأجنبي لأرضنا. وتجربة المائة يوم السوداء الدموية منذ 3 يوليو تقول لنا: إنه بقدر ما يسود العقل الأمني يغيب العقل السياسي، وبقدر ما تتعامل السلطة مع خصومها السياسيين باعتبارهم مجموعة من المجرمين بقدر ما تجرّف الحياة السياسية في البلاد، وتجفّف مصادر حيويتها، ومعالم الحياة فيها. عندما يسود العقل الأمني يغيب العقل السياسي والعمق الاجتماعي لسياسات الدولة التي تنتقل تدريجيا من دولة أمنية خائبة إلى دولة فاشلة، ومجتمع محتقن وقوى سياسية تضحي بالمختلفين معها لترضي مؤسسة عسكرية لا يرضيها إلا العسكرة الكاملة لجميع نواحي الحياة في المجتمع، وساعتها ندخل جميعا في مرحلة الأفول. ومرحلة الأفول هذه ليس لها من دون الله كاشفة حتى يمن الله علينا بصحوة اجتماعية وجيل يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى، ويعيد إلينا معالم دولة إنسانية: يأمن فيها الجميع، ويشارك فيها الجميع، ويسهم في مستقبلها الجميع: بلا إقصاء لمختلف التيارات. ولا تجريم للعمل السياسي. ولا مصادرة للعمل الاجتماعي. ولا تصفيات جسدية للمعارضين وقواهم الاجتماعية. ولا قانون يمنع التظاهر السلمي، ويرهنه بموافقة وزير الداخلية أو مدير الأمن. ولا قوى سياسية استئصالية: لا تؤمن بالتنوع، ولا تقبل التعدد، ولا تحترم الخلاف.