"أنا أجزم بأن كأس العالم مؤامرة صهيونية".. هذا ما أكده لي صديقي العزيز، الذي رفض بشدة متابعة مباريات البطولة، مقدمًا دليله وبرهانه على المؤامرة باختيار هذا التوقيت تحديدًا، والذي جاء بعد أيام من المجزرة الإسرائيلية لأسطول الحرية، بهدف جذب انتباه الشعوب نحو أحداث البطولة، وشغلهم عن متابعة ودعم القضية الفلسطينية، ولذلك فإن كأس العالم هو أيضًا مؤامرة صهيونية، تنضم إلى قائمة طويلة من المؤامرات ضد العرب والمسلمين. دعك يا عزيزي من أن موعد بطولة كأس العالم محدد سلفًا منذ ما يزيد عن أربع سنوات، فالأزمة هنا لا تتعلق فقط بربط المجزرة الإسرائيلية بكأس العالم، وإنما تتعدى ذلك إلى ثقافة عامة ترى في كل ما يجري حولنا من أحداث هي مؤامرات تحاك بنا، وأيدي تتحرك في الخفاء حتى لا نتمكن من النهوض أبدًا، وهو ما بات يعرف بنظرية المؤامرة، والتي تحظى بالقبول والممارسة عادة ممن يفسر الشبهات والأفكار من منطلق عقائدي، وتنتشر بشكل خاص في أوساط الإسلاميين واليساريين، حيث يتحدث المؤيدون لها عن أسرار وافتراضات وتاريخ كامن خلاف ما يبدو على السطح من أمور، فمع وجود مناخ حكومي فاسد يتستر أكثر مما يعلن، وفي ظل غياب ثقة بالآخر سواء أكانت الأنظمة الحاكمة أو دول الخارج، ومع انعدام المعلومات وتضارب التفسيرات المعلنة، تصبح نظرية المؤامرة هي الحل الأنسب والأسهل، فهي ترجع أسباب التخلف الحضاري التي نعيشها إلى مؤامرة كبرى، نلعب فيها نحن دور الكومبارس من دون أن ندري، وبالتالي يسهل تفسير الأحداث الجارية في ضوء هذه النظرية، فمثلاً يمكن اعتبار الظهور المفاجئ للدكتور "محمد البرادعي" مؤامرة أمريكية أو حكومية، تهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام الحركات الاحتجاجية الناشئة، ومن تحت أقدام الإخوان المسلمين أيضًا، بحيث يحدث ارتباك في الساحة السياسية يصب في النهاية لصالح تدعيم موقف النظام الحاكم. دعنا في البداية نتفق أن من حق أي أمة قوية تأمين مصالحها والسيطرة على الآخر، تارة بالسياسة، وتارة أخرى بالتمدد خارج حدودها كما تفعل أمريكا الآن، نظرية القوة تعتبر أن الأقوى دائمًا هو من يفرض تاريخه وثقافته وإستراتيجيته على الأمم الأضعف، وقراءة التاريخ خير دليل على ذلك، فمع صعود الإمبراطورية الرومانية والفارسية، كانت تلك الحضارات هي مصدر الأساطير والفلسفة والقوة العسكرية التي اجتاحت الأرض، وصنعت لنفسها مجدًا عظيما لا تزال آثاره ظاهرة حتى اليوم، وهكذا ميزان القوة يمضي للأمام فارضًا على الآخرين ما يعتقدون أنه مؤامرة، وحين كان المسلمون هم القوة السائدة، اعتقدت ممالك أوروبا أن المسلمين يحيكون ضدها المؤامرات للاستيلاء على بلادهم وثرواتهم وتبديل عقائدهم، وبالتالي فإن كل جديد لم يعهد به الناس، أو كل ما يخالف ما اعتادوا عليه يصفونه بالدخيل، أو يردونه إلى نظرية المؤامرة، فحتى الحكومات الديكتاتورية والمتسلطة تعتبر كل ما يخالف محاولاتها في السيطرة والنفوذ أنه مؤامرة من أعدائها في الداخل والخارج، ضد مصالح الدولة وأمن البلاد، كما يحدث ذلك أيضًا على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع، فمناهج التعليم مؤامرة، وأنفلونزا الطيور مؤامرة، وحتى خروج مصر من كأس العالم فهو أيضًا مؤامرة، وأصبحت تلك النظرية هي الشماعة السهلة التي نعلق عليها أخطاءنا وعجزنا. عندما نرفض منطق المؤامرة كطريقة للتفكير فإن ذلك لا يعني أن كل أحداث الواقع تقع بعفوية وطبيعية، إلا أن البحث في تفسير الأشياء تفسيرًا علميًّا يحتاج إلى جهد وبحث ومعرفة دقائق الأمور، هناك من يصنع الأحداث، وهناك من يؤثر في الحدث، وهناك من يعجز عن التأثير في الحدث ولكنه يستطيع فهمه وتحليله، ولكن الأسوأ على الإطلاق أن نجمع بين العجزين..عجز التأثير وعجز التفسير، لا يمكن لأي متابع للأحداث أن ينكر وجود تخطيط وتدبير يحركان كثيرًا من الأحداث السياسية والتاريخية، لا ينبغي أن يفترض بالآخرين أنهم يستهدفون الخير العام للبشرية، ففكرة المصالح الخاصة هي التي تحرك سياسات الدول، ولكن من غير المتصور أن كل حدث في أية بقعة في العالم له ارتباط بنظرية المؤامرة على العرب والمسلمين، سنويًا تصدر في العالم العديد من الدراسات الاقتصادية والتنموية والثقافية والعلمية حول المنجزات الحضارية لشعوب العالم، وتأتي الدول لعربية دائمًا في المؤخرة، فنحن المنطقة الوحيدة في العالم التي لا تطبق فيها الديمقراطية، ومعظم الأخبار السيئة والسلبية من صنع أيدينا، والعالم ينظر إلينا كنوع من التسلية، ونموذج على كل السلبيات مثل الفقر والجهل والقمع والفساد والتطرف وغيرها. هل فكر أحدكم لماذا تنجح المؤامرات علينا دائمًا؟ لماذا تعد مجتمعاتنا أرضًا خصبة لتفعيل ونجاح هذه النظرية؟ لماذا يوجد لدينا هذه القابلية العجيبة للتآمر علينا؟، ثم دعني أقترب أكثر وأسأل: هل تنجح نظرية المؤامرة في مجتمعاتنا لأننا قوم أبعد ما نكون عن التفكير العلمي المنظم؟ أم لأننا في مجملنا شعوباً وأنظمة نكره عناء البحث في الأسباب، ونرى أن التاريخ قد كتب مسبقاً ولا داعي لعناد القدر؟ أم تنجح لأننا مؤمنون بأن القدر هو الذي سيعيد لنا حقوقنا المسلوبة، ويثأر لنا ممن ظلمنا؟. وأخيرا يبقى أن نتساءل عن السبب في غلبة ثقافة نظرية المؤامرة في أوساط الإسلاميين بشكل خاص، ومدى ارتباط ذلك بالمنهج وطريقة التفكير، فهل لذلك علاقة بالتاريخ الإسلامي، أو بفهم القرآن الكريم والسنة النبوية؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]