لا تبدو في الأفق أية سيناريوهات ممكنة للتعامل الدولي مع ملف إيران النووي غير فرض عقوبات اقتصادية، فطهران فاجأت الجميع، ووضعت ملفها النووي الذي اكتمل على الطاولة على قاعدة فرض الأمر الواقع. وبعد فشل جولة المفاوضات الجديدة في فيينا بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ازداد الوضع تعقيداً، خاصة بعد المؤتمر الصحافي الأخير للرئيس محمود أحمدي نجاد الذي تمسك فيه بمواقف إيران السابقة، بعدما شكل المؤتمر فرصة أخيرة لإيران كي تعلن مواقف جديدة قبل انتهاء المهلة التي قررها مجلس الأمن للتوقف عن تخصيب اليورانيوم نهائيا. وطرحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ثلاثة أسئلة، أرادت أجوبة لها من طهران، وهي: الإطلاع على الوثائق الإيرانية الخاصة بالصفقات النووية مع شبكة العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان، وإجراء مناقشات مع ضباط إيرانيين يشتبه في إدارتهم للأعمال اللوجستية الخاصة بالتخصيب، وأخيراً الحصول على معلومات حول أجهزة الطرد المركزي من طراز "بي-2"، التي يعتقد أن إيران تمتلكها، وتستخدم لتخصيب اليورانيوم بدرجة تفوق مثيلاتها من طراز "بي-1" التي استخدمتها إيران حتى الآن. ولا تبدو طهران عازمة على الإجابة عن هذه الأسئلة في هذه الظروف التفاوضية؛ لأن مجرد القبول بإعطاء إجابة يعني أن القيادة الإيرانية قررت الرجوع عن سياسة التمسك بالتخصيب. كما أن الكشف عن الوثائق والسماح باستجواب ضباط إيرانيين وإعطاء معلومات حول أجهزة التخصيب يفتح البرنامج النووي الإيراني أمام التحالف الدولي المناوئ لها، وينزع "الغموض" حول طبيعته ويقلل من قدرات طهران السياسية على المناورة واللعب في كافة الاتجاهات. وبعيداً من خطاب نجاد ومفرداته، لا يخفى على المتفحص أنه لم يعد الآن قبل انتهاء المهلة سوى احتمالين نظريين لتطور الأزمة النووية الإيرانية على المدى القصير، الأول هو قبول الطرفين الإيراني والأميركي بالعودة إلى طاولة مفاوضات تشرف عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهذه النتيجة، تعني أن إيران ربحت معركة التصعيد التي خاضتها منذ إعلانها استئناف اليورانيوم مطلع العام الجاري، وهي النتيجة التي لا تبدو الإدارة الأميركية راغبة في التسليم بها. والاحتمال الثاني الراجح لسير الأزمة النووية الإيرانية هو صدور قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على إيران، تبقى شدتها محلاً للتفاوض بين الأعضاء الخمسة الدائمين، من أجل الاستمرار في الحفاظ على الإيقاع النزاعي للأزمة. وفي حال فشلت واشنطن في تأمين موافقة الصين وروسيا، سيعمد التحالف الذي تقوده واشنطن إلى فرض عقوبات اقتصادية، من دون غطاء من مجلس الأمن إذا استلزم الأمر. ونظرا إلى أن العقوبات الاقتصادية تتطلب وقتاً تنضج فيه أدواتها وتتضح آثارها الاقتصادية - الاجتماعية ومن ثم الاقتصادية - السياسية على البلد المعني، فالأرجح أن واشنطن الراغبة في التصعيد ستتبنى خيار العقوبات الآن من أجل زعزعة الوضع القانوني لإيران، وستلبي العقوبات الاقتصادية حاجة ماسة للإدارة الأميركية. وستكون العقوبات الاقتصادية أداة لإدارة بوش من أجل الهروب إلى الأمام، والخروج من مأزق عدم قدرته على إثبات انتهاك إيران التزاماتها الدولية، والتقدم خطوة أساسية في اتجاه الحل العسكري. وفي حين تبدو العقوبات الاقتصادية "تكتيكا" أميركيا لإدارة الأزمة، وحلا مرحليا يسبق حلولا أكثر صرامة، فإنها لا تشكل من المنظور الإيراني- كارثة كبيرة، بل نتيجة يمكن القبول بها في الوضع الحالي، وتسمح باستثمار الوقت لفرض وقائع إقليمية جديدة من قبيل مد دائرة النفوذ الإقليمي الإيراني لتشمل المحور الذي تقوده بدءاً من العراق ومروراً بسورية وليس انتهاء بلبنان. وإصرار واشنطن على المضي في المواجهة مع إيران، يقيد حركتها بطريق إجباري واحد، يتمثل في الضغط على أعضاء مجلس الأمن والحلفاء لفرض عقوبات اقتصادية على إيران وصولاً إلى اعتماد الحل العسكري في النهاية. لذلك تبدو العقوبات الاقتصادية الآن مثل مرحلة وسيطة قبيل الوضع شبه النهائى، أي اعتماد الحل العسكري. ورغم ذلك، لا تبدو الإدارة الأميركية في وضع يتيح لها إقناع كل الشركاء في مجلس الأمن، بخاصة الصين وروسيا، اللتين أفهمتا إدارة بوش بطريقة دبلوماسية وإن كانت واضحة أنهما لا تشاطرانها الرأي في ما يتعلق بكيفية التعامل مع ملف إيران النووي. وسيمثل الاجتماع المقبل لمجلس الأمن علامة فارقة في تطور "الأزمة النووية الإيرانية"، باعتباره خطوة أساسية قبل التصعيد. وتشير التطورات الأخيرة أن القطب الدولي الأوحد لا يملك أفكارا تفاوضية تحاصر إيران دبلوماسيا وتوسع دائرة تحالفه الدولي، بل فقط تهديدات بإنشاء "تحالف الراغبين" للانخراط في حرب ضد إيران من دون غطاء من مجلس الأمن إذا تطلب الأمر، كما قالت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، أو شن "حرب وقائية" بالقنابل النووية التكتيكية كما نقل الصحافي سيمور هيرش عن مسئولين نافذين في الإدارة الأميركية. أما الإدارة الإيرانية للأزمة، فتثبت وعيا بالمأزق الذي تعيشه واشنطن في العراق، واستيعابا لتناقضات المصالح الدولية بين واشنطن وموسكو وبكين، لكن البراعة الإيرانية المقترنة بصلابة تفاوضية ملحوظة لا يمكن التعويل عليها إلى الأبد. المصدر : العصر