بتصفح بسيط ومتابعة أبسط لتغطية الإعلام الباكستاني الرسمي وغير الرسمي للغارات الأميركية المتواصلة على مناطق القبائل منذ سنوات عبر استخدام طائرات التجسس المستهدفة لناشطي القاعدة وطالبان يظهر بشكل واضح لامبالية الإعلام المحلي بهذا النوع من التغطية، إذ بينما كانت أخبار القصف الأميركي الذي شمل إطلاق أكثر من 18 صاروخا في يوم واحد بتاريخ الحادي عشر من الشهر الجاري وأسفر حينها عن مصرع واحد وعشرين شخصا .. هذه الأخبار كانت العنوان الأول أو الثاني في محطات فضائية عربية وعالمية، لم يكن سوى الخبر الأخير في الراديو الباكستاني، واختفى تماما من الصفحة الأولى لمعظم الصحف الباكستانية الصادرة في اليوم التالي، في حين تصدّر تكليف ملكة بريطانيا لرئيس حزب المحافظين ديفيد كاميرون بتشكيل رئاسة الحكومة الخبر الرئيسي لصحف باكستانية عدة بارزة .. هذه صورة من الصور التي يغطيها الإعلام الباكستاني لقضية محلية في غاية الخطورة والتداعيات التي علق عليها صحافي باكستاني يغطي أحداث مناطق القبائل حين قال :" أتمنى أن يُدمر هذا البلد بعد أن دمروا مناطقنا في القبائل دون أن يكترثوا بنا وبأرضنا.." فأهالي مناطق القبائل يشعرون أن قيمة الإنسان القبلي لا تساوي شيئا مقابل قيمة الإنسان الباكستاني المقيم في المدن الرئيسة الذي يتعرض لهجمات المسلحين ولهجمات غيرهم ، وبالتالي فالتغطيات الإعلامية لهجوم فندق ماريوت في إسلام آباد كان الاهتمام به عالميا ومحليا لا يُقاس بما تتعرض إليه مناطق القبائل، وكأن ضحايا هجوم فندق الماريوت خُلقوا من رأس الآلهة ونحن خُلقنا من أرجلها بحسب تعبير رجل قبلي ... التغطية الإعلامية في هذه المنطقة من أصعب ما يعانيه الصحافي المحايد فهو بين مطرقة الحكومة والجيش الذي لا يسمحانا له بزيارة المنطقة كونها تقع ضمن المناطق المحظورة على الصحافيين، وبين سندان المسلحين الطالبانيين الذين يخشون أن يكون الصحافيون جواسيس للأميركيين وبالتالي يرشدون صواريخهم عن أماكن وجود وانتشار المسلحين، وبالتالي تكون الضحية الحقيقة كالعادة، ومن خلفها المدنيون الذين لا يعكس الإعلام معاناتهم الحقيقية ، ففي جنوب وزيرستان خلت المنطقة تماما من التغطية الإعلامية وهرب الإعلاميون إلى المناطق المدنية، لتغطية الأحداث عن بُعد، أما في شمال وزيرستان فلا تزال هناك بعض المؤسسات الإعلامية ومن بينها الجزيرة لديها حضور إعلامي وإن كانت مسألة التصوير غير مسموح بها لخشية المسلحين المسيطرين على أجزاء مهمة في المقاطعة من أن يكون المصورين والإعلاميين متعاونين مع الأميركيين كما أسلفنا .. المصدر الوحيد الذي يطل على العالم من خلال الإعلاميين لمعرفة ما يجري من قتال ونتائج القصف الصاروخي الأميركي على مناطق القبائل هو "مصادر أمنية باكستانية مجهولة الهوية"، وبالطبع هذه المصادر ليس مرخصا لها أن تصرح بهوياتها، ولم يسبق أن أعلنت هذه المصادر أن ضحايا القصف الصاروخي الأميركي من المدنيين إذ دائما ما تسارع وبعد لحظات من حصول القصف إلى التأكيد على أن الغارات استهدفت مسلحين طالبانيين وأجانب وعرب وغير ذلك، بينما مواقع أميركية وغربية معنية بالقصف تتحدث عن نسبة تتجاوز الثلاثين بالمائة من القتلى على أنهم مدنيون، وبنظرة سريعة على الغارات الأميركية التي استهدفت مناطق القبائل يظهر أن ما قتلته من قادة طالبان والقاعدة لا يتعدى أصابع اليدين وربما اليد الواحدة، في حين تؤكد الدراسات أن كثيرا من أقارب وذوي ضحايا القصف الصاروخي انضموا إلى طالبان للانتقام من قتل أقاربهم، وهو ما يعني أن هذا القصف تحول إلى وقود جديد لطالبان ... هذه المصادر الأمنية هي نفسها التي أعلنت عن مقتل زعيم حركة طالبان باكستان حكيم الله محسود ثم تحدثت عن دفنه في مقاطعة أوركزي ، وتحدثت أيضا عن نقله إلى منطقة ملتان لتلقي العلاج ليخرج بعدها محسود في شريط فيديو نافيا كل هذه التقارير، مما شكل صفعة قوية لهذه المصادر وللبنتاغون الأميركي الذي أكد مقتله، وهو الأمر الذي أثار مجددا دقة النقل عن هكذا مصادر والثقة بها، وما يجعل تسريب الأخبار من مناطق القبائل لا يخلو من فلترة ودوافع سياسية هو غياب المصادر المستقلة من مؤسسات غير منحازة أو من مفكرين ومثقفين وكتاب محايدين فضلا عن قدرة وجرأة الأهالي الحديث عن الأمر ما دامت العقوبة جماعية بحسب العرف القبلي، بمعنى إن أخطأ شخص قبلي هناك تُعاقب القبيلة بأكملها نظير فعله ... وباعتبار المنطقة من أخطر الساحات للتغطية الإعلامية نظرا لكونها ساحة حقيقية لللعبة العظمى بين أميركا والغرب ومعهم باكستان كلاعبين حكوميين وبين لاعبين غير حكوميين ممثلين بطالبان والقاعدة من جهة أخرى ، فبالتالي إما على الصحافي أن يكون ملحقا أو مرافقا للمسلحين الطالبانيين لينقل وجهة نظرهم فقط على الأرض، أو ملحق ومرافق للجيش الباكستاني لينقل وجهة نظره الأحادية، أما حين يتحرك الصحافي بشكل مستقل بعيدا عن الطرفين كما حصل مع الصحافي أسد قريشي الباكستاني العامل في قناة البي بي سي الرابعة يتم اعتقاله من قبل المسلحين ويظهر على شريط فيديو مناشدا منظمات حقوقية تأمين مبلغ عشرة ملايين دولار فدية للإفراج عنه كما اشترط خاطفوه ، مقابل ذلك نتذكر كيف تم خطف صحافي محلي مطلع الهجمات الصاروخية الأميركية قبل سنوات لإظهاره إشارات على الصاروخ الأميركي المتفجر على أنها دليل على أن القصف أميركي آنذاك مما أدى إلى اختفائه واتهم في حينه الأمن الباكستاني بذلك ثم عُثر عليه مقتولا في ظروف غامضة واتهمت عائلته الأمن الباكستاني بقتله .. المسلحون الطالبانيون هددوا أكثر من مرة الإعلام الباكستاني من تجاهل وجهة نظرهم في تغطياته الإعلامية ، لكن هذا الإعلام كان قد صدر بحقه قانون باكستاني يحظر تمجيد الإرهاب والإرهابيين والمقصود به المسلحون الطالبانيون وإلا سيخضع للمساءلة القانونية والمحاكمة، وهو ما جعل الإعلام الباكستاني أسير رؤية الحكومة، وأفقدته دوره في أن يكون جسرا بين الرؤيتين وأن يكون عربة لنقل الأفكار ووجهات نظر الطرفين لبعضهما بعضا.. غياب الإعلام عن المنطقة دفع ثمنه المواطن العادي الذي يجهل الكل مشاكله اليومية، فبعض التقارير الخاصة من المناطق التي تتردد فيها الهجمات الصاروخية الأميركية تتحدث عن مرض جلدي خطير يصيب أهالي المنطقة وتحديدا الأطفال منهم وبسبب عدم وجود الصحافيين والكاميرات سيظل العالم يجهل هذا الأمر، بينما الكشف عنه ربما يؤدي إلى تخفيف معانات السكان المحليين، إما بالاهتمام الطبي أكثر بالمنطقة ، وتلبية الاحتياجات الطبية والصحية للأهالي الذين يتعرضون لهذا الوباء إن صح، أو بتراجع حدة القصف الصاروخي مما يشكل عامل ضغط على استخدام هذا النوع من الهجمات الصاروخية، والأعجب من ذلك أن نقابات طبية باكستانية تجاهلت الأمر تماما حتى ولو بزيارة تفقدية لمعرفة صحة أو عدم صحة هذه التقارير فضلا عن صمت منظمات حقوقية على الأمر..