"خلص في الدور".. و"لم تعابينك".. جمل تكاد تتردد يوميًا بين أفراد المجتمع القاهري هذه الأيام. وهي تأتي في سياق العصبية المنتشرة والحدة المستجدة والأخلاق "الزيرو" بين أفراد المجتمع وافتقارهم للصبر والأناة والتعقل والحلم والحكمة. ويتعجب الفرد من أن الكل قرر أن يقوم ب"ريجيم أخلاقي قاسي".. ليكشر عن أنيابه.. ويسن مخالبه.. ويهز ذيله.. متخذًَا وضع الهجوم للانقضاض على فريسته في في أي وقت.. وكما نصح عبد المنعم إبراهيم رشدي أباظة في فيلم "الزوجة 13" بأن يتلكك لشادية.. ويقول لها مساء الخير وعندما ترد مساء الخير.. يرد عليها بصفعة "يد.. خد" تخلف ألمًا بدنيًا ونفسيًا عميقًا.. بل ويرد بتعليقه "وكمان بتقولي مساء الخير". وهكذا أصبحت الحياة تلاكيك في تلاكيك.. فيقوم الرجل بفتح موضوع مع أي من أقاربه لتتحول المحادثة إلى معركة كلامية شرسة قد تنتهي بنتائج وخيمة قد تكون أخف نتائجها سطحية تعالجها غرزة أو اثنتان.. فلم يعد لأحد طول بال للصبر على أقرب الناس له أو حتى جار له أو حتى جيرانه المؤقتين والذي لا يعاشرهم أكثر من نصف ساعة بإحدى المواصلات.. معضلة تزداد يومًا بعد يوم، خاصة مع تطور الموقف من محادثة حادة إلى معركة بالأيدي الضرب بالروس والشوم والأحذية.. وانت وحظك بأي من هذه الأسلحة سوف تصاب. ولعل الحرية التي تمتعنا بها بعد الثورة أضافت "أوبشنتز" جديدة، حيث أضافت البنادق والرشاشات.. أما صعيد مصر فدائمًا مميز وفريد، لذا نجد لديهم "آر بي جيهات"، ولعل هناك "دبابات" ومدرعات، تحسبًا لأي معركة منتظرة.. وتطبيقًا لمقولة "عليّا وعلى أعدائي". ولم يعد أحد يكبر دماغه حرصًا على دخول رأسهم من ال"تي شيرت".. والجميع أصبح صوته عاليًا.. وهو الأمر الذي خدعونا به زمان، حيث لوثوا عقولنا بمقولة "الصوت العالي دليل على ضعف الموقف". وللأسف طالت هذه العدوى الجيل الناشيء.. فنلاحظ أن الأطفال يحملون بالوراثة جين ال"أخلاق زيرو".. لتتحطم على أرض الواقع صور لنماذج طالما قابلناها زمااااان تميزت بالشهامة والأخلاق الرفيعة.. لنعلن للأبد انقراض هذه الكائنات منذ عقود.. ولعل ما تبقى منها يصلح للوضع في متحف.. يتعجب زائروه من معجزات لسانه الذي لا يرص الشتائم ولا يعد البذاءات ولا يلوث ب"صوت حميري" مسامع الناس. كما اختفت من حياتنا كلمات رقيقة تحث على الصبر وطول البال مثل "يا مصبر الوحش على الجحش!" "اللهم اغزيك يا شوشو!".. "الحلم سيد الأخلاق".. "اهدى حبة تزيد محبة".. "كبر دماغك".. "خليك باااااااارد". واختفت لافتات الصبر من أبواب البيوت ومن فوق زجاجات السيارات، فلم نعد نرى لافتات: "الصبر مفتاح الفرج"، "لاقيني ولا تغديني"، وحل محلها: "متبصليش بعين رضيّة بص للي اتدفع فيّه"، "عضة أسد ولا نظرة حسد".. "شوف اتدفع فيها كام وبدهب المدام".. وهو ما يعكس إيمان المجتمع بنظرية "المؤامرة" بين أفراده .