كرهت نفسي اخبار الموت والدمار، وعزفت عن قراءة الاكاذيب والخزعبلات، وعفت عن سماع الفتاوي البشرية ومجت عن ترديد الخرافات. كرهت نفسي اخبار الموت والدمار، وعزفت عن قراءة الاكاذيب والخزعبلات، وعفت عن سماع الفتاوي البشرية ومجت عن ترديد الخرافات، وتبقي حقيقة واحدة وهي ان الكل قبض ريح ما عدا الافكار فهي نتاج العقل والضمير، هي الحضارة الانسانية والملاذ الاخير للبشرية لان التاريخ هو الفارق بين الانسان والحيوان- ان الله قد خلق الانسان وسواه فكان من الضروري ان يزوده بالعقل والوجدان ليتعرف علي نفسه ثم علي الكون الذي يعيش فيه وفي علاقاته مع الاخرين فارسل الرسل والانبياء للتوجيه والتوعية وليكونوا لمسة وفاق وليسوا نبت فراق، ودون الدخول في متاهات الخير والشر اقول ان الله عندما خلق الانسان وكمله بالخير خلق ايضا الملائكة ولكن الانسان تكبر وكبير الملائكة عصي اوامر الرب فكان الشر وكان الثواب والعقاب ملازمين للخير والشر- اي ان الشر من الانسان وبالتالي فان معرفة الحق هو الميزان الكوني الذي يحدد مصير ومسار الخلق ويبدأ هذا الحق مع ولادة الانسان واستمرار الانسانية وهو يري ان هذا العالم قد خلق لذاته وكلما كبر وازدادت معرفته وجد ان الحق يتطور ويرتقي ليشمل الاخر ايضا الذي يشاركه الحياة، ولما كان هذا الحق ليس بمطلق فان الضمير هو الرابط لكل المعايير التي تقيد المرء من ان يشذ او يتعثر او يتعصب، فالانسان السوي، - وهكذا خلقه الله - عليه ان يكيل للغير بما يكيله لنفسه وان يحب لغيره ما يحبه لذاته ومن هنا تبدأ عملية التحرر، بمعني ان الانسان البعيد عن الحق قد حبس نفسه داخل قوقعة من الانانية والتميز والتخلف، اما الانسان الذي حرر نفسه فقد انطلق مع الخير الي رحاب الانسانية الكونية، ولنعود الي هذا المخلوق الذي انكمش الي داخله والذي يري الحقيقة ولكن عينيه لا تنقلها الي عقله، فهو فاقد البصيرة وقد تمت انانيته فطغت علي ذاته فلم ير غير ذاته وبالتالي فان حياته مأساة له ولغيره ويصبح فقاعة هواء فاسدة تزخم الحياة بنشاذها ورائحتها وتسمم الاجواء المتحررة بافكارها المتيبسة وهكذا اصبح هذا المخلوق عبئا علي الانسانية المتحررة يعثر من انطلاقها ويقيد من حريتها.. وتعال معي لنتصور عالما متحررا من الانانية والتخلف والتكفير والتصفية والتميز والفرقة بل والكره في مقابل عالم كله مشاركة ومحبة، سوف تقول لي هذا مستحيل واردف قائلا: ان المستحيل هو ان نكمل مشوار الحياة بدون تحرر- كم يحزنني ان اجد بعضا من المخلوقات وقد رفع راية العصيان واطلق العنان للسان يقذف بالفكر التعبان ويشبهني ذلك بالحية الرقطاء رافعة رأسها تبحث عن فريسة تبث فيها سمها فتقتلها وتبتلعها وتتكور عليها لتهضمها علي مهل. وتحضرني مقولة لصديق عاقل قال: ليس كل ما تعرفه يقال، وليس كل ما تقوله صالحاً لكل زمان او مكان او جمهور. واذا تفحصنا هذه المقولة سوف تقودنا الي تداعيات خطيرة اي الي المؤسسات الدينية المنظمة وهنا ليس مجاله، انه لمن الصعب ان نسيطر علي الفكر الحر في بلد مثل مصر لها تاريخها الفكري وحضارتها القديمة والمتواصلة حتي اليوم فهي من ناحية تحاول الحفاظ علي حقيقة الاديان السماوية ومن جهة اخري السماح للعقل ان يفكر في الحدود المسموح له بها، ولكن ما هي هذه الحدود ومن الذي سيضعها ومن الذي سيراقبها ومن الذي يحكم ويفتي؟ ان مصر اليوم بحراسها علي العقل والفكر والمناظرين بين الايمان والفكر من مالكي الحقائق، اصبحت كواحة برمجوا فيها الايمان، وأظلموا العقل وسيسوا الدين وخططوا أطرها الفكرية والحدودية المسموح بها- اصبحت واحة غريبة عن العالم الحر واحة تحدها اربعة بحار لينحبس داخلها الفكر المنطلق، ان هذا المقال يفتح الباب لهذه الحدود لانه في هذا العصر وبعيدا عن الثوابت يجب ان تجادلني واجادلك بالحجة مقابل الحجة والفكر بالفكر في عقلانية موحدة فهذا يعزز الحقائق ويبطل الاباطيل ويرفع من قدر الانسان وفي النهاية يعلي من شأن الاديان بل لعله في حقيقة الامر ينحو الي شرح حقيقة الاديان ويطهرها من الاختراقات والخزعبلات، ان الاديان السماوية كلها ترتكز علي جناحين علاقة الانسان بربه اي الروحانيات وعلاقة الانسان باخيه الانسان اي ديوان اخلاق. ويبقي لنا الآن ان نتأمل بحق وصدق في ايمان وعقائد اخواننا في الانسانية او الكونية والمشاركين معنا علي هذا الكوكب والذين يمثلون اكثر من نصف ساكني المعمورة هؤلاء المانويون والطاوون والهندوس والبوذيون والكمفشيوسيون والشئتوون والزرادشت الخ.. ونحن في ضميرنا المستتر نعتبرهم غير مؤمنين لانهم لم يتهودوا او يتمسحوا او يسلموا وصرنا نتعامل معهم باحتراس وخشية وكأنهم ليسوا من مخلوقات الله، أليس في هذا تعصب ممقوت وعنصرية مقيتة؟ ولكن لا يسعني الا ان افكر في نفسي، من هم هؤلاء؟ وهل سيدخلون الجنة ولهم النار مثلنا وهل جنتهم ونارهم مثل جنتنا ونارنا وهل يوم قيامتهم مثل يوم قيامتنا؟ ولكن مع انفتاح الفكر علي العالمية، حيث اصبح العالم قرية ذكية صغيرة لا يسعني الا ان افكر اقتصاديا وانسانيا واجتماعيا، في هذه الشعوب وتلك الارواح التي خلقها الله- الا تري معي انه لم يعد من المستطاع حبس الفكر وغلق العقل وصم الاذان وتحديد مجال الرؤية والفكر!! ولما كان العقل هبة من الله يصبح الصلة المقدسة بين الانسان وربه، فان تعطل العقل توقفت الصلة ويصبح الانسان حيوانا ناطقا، ولعلي بهذا اريد أن اقول ان السيطرة علي العقل اي غسيله من قبل بعض الافراد هو تجن علي عطاء الله لان السيطرة علي عقلي وهو ملكي سوف يحاسبني الله علي ما افكر فيه وليس لاحد ولا من حقه ان يسيطر علي العقل. اقول ان الاديان جاءت لتبقي والله الحافظ لها وليس البشر، فان هم تحكموا في العقل والايمان فقد بطل العقل وفسد الايمان، وفي مرجعية لبيت احمد شوقي اقول من عندي: انما الشعوب "عقولهم" ما بقيت- فان هموا ذهبت "عقولهم" ذهبوا.