اللغة العربية الفصحى هي – فيما أرى – الجامع الأول الذي ينتظم به عِقد هذه الأمة من خليجها إلى محيطها، وهي العامل الأول في تركيبة الهوية العربية التي لا تقوم الأمة بدونها. فبهذه اللغة، ومن خلالها، يفكر الناس – خاصتهم وعامتهم. ويتشبع تراثها المحفوظ بقيَمِها ومُثلها، وتجرى في تعابيرها ومفرداتها أخلاق أبنائها ومبادئها. والعربية في هذا ليست كأية لغة من اللغات التي تجرى على ألسن الناس شرقاً وغرباً، فسائر اللغات، إلا ما ندر منها كالألمانية، تعتمد على ترجمة الصوت الصادر من الفم لإيصال المعنى إلى العقل، دون أن يكون هناك اشتقاقاً أصيلا للكلمة تصطحبه أينما توجهت، وفضل العربية في هذا لا يفتقر إلى بيان، وتفوقها لا ينكره عاقل. ولست بذاكر لهذا الحديث عتباً على من يهاجمون العربية قولاً وفعلاً من العلمانيين والليبراليين والحداثيين، فهؤلاء عجزوا عن استيعاب العربية، وشحّ نصيبهم منها فلجؤوا إلى العامية الدارجة عن عجز وقصور لا عن قصد وهدف، ولكن أذكره أسفاً على غياب ذلك النمط الراقي من الكتابة من صفحات مجلاتنا. اللغة التي باتت صحفنا تستخدمها في الكتابة لم تعد تحمل تلك الرشاقة الخلابة التي تشيع في النفس أنساً قبل أن تبث في العقل فهماً، ولم تعد تتصف الفاظها بالجزالة والقوة جميعاً. أصبحنا – فيما أقدّر – نفتقد الأسلوب الخاص الذي يُعرف به الكاتب ويتميز به بين سائر الكتّاب، إذ اشتبهت الأساليب لتكون أقرب ما تكون إلى أسلوب واحد، فيه جفاف الحقائق المجردة وعنف التدليل العقليّ وصرامة الإحصاءات والأرقام! التواصل بين الكاتب وقرائه يمكن أن يكون تواصلاً عقلياً مجرداً، يقدم فيه الكاتب كمّاً من المعلومات دون أن يهتم بوسيلة أداء هذا الكم، أو أن يقدم ذات الأفكار والمعاني في ثوب رشيق ولفظ متأنق وعبارة جزلة. ودور كتابنا ومفكرينا من المناهضين للعلمانية والحداثة والليبرالية وما شئت من هذه المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، إحياء هذا التوجه، فإن القارئ لم يفقد اللسان العربي والحسّ الأدبيّ حتى فقده كتابه ومفكروه. حتى ما كنا نراه من زوايا الأدب واللغة التي كانت جزءاً من صحفنا إلى عهد ليس بسحيق، لم يعد لها أثر. كنا نقرأ أبيات شعر مختارة تصقل الحسّ وتثير العاطفة وتشغل العقل، وكنا نقرأ نثراً تكاد كلماته تقفز من فوق الصحف تألقاً ونضارة، نقرأ أخباراً عن أيام العرب وعلم العرب وخلق العرب، مما تحمله كتب التراث الأدبيّ، فإذا كلّ هذا قد فُقد من صحفنا حتى تلك التي تتوجه توجهاً إسلامياً عربياً! فالفقه في الدين لا يتم إلا بفقه اللغة وإتقانها، وحسرة على ابنائنا الذين يصرّ آباؤهم على أن يتقنوا الإنجليزية ويتعلموا آدابها قبل العربية، بل دونها، كيف يقرؤون القرآن، بل كيف يفهمون الإسلام. وأروى رواية عن عمر بن الخطاب إذ كان يقرأ قول الله تعالى: "أو يأخُذهم على تخوّف"، سأل عمر جلسائه: وما التخوّف؟ قال أعرابي: التخوّف يا أمير المؤمنين هو التنقّص، ألم تسمع قول الشاعر: تَخوّف الرّحلُ منها تامِكاً قَرِداً كما تًخوّف عودُ النبعةِ السَفَنُ (اي كما انتقص منه)، قال عمر: أيها الناس، احفظوا ديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم. أقترح على صحفنا الحرة العربية أن تخصّص زوايا للأدب والشعر، فاللغة إذا فقدت ذهب معها القرآن، فذهب معه الفقه والإيمان، ولا حياة للأمة دون إحياء لغتها. [email protected]