المشهد الأول لجمعيات تلهث لتسد حاجة فقراء يعيشون فى فقر مدقع على أقل من دولار واحد يوميًا، والمشهد الثانى لاحتفالية سببها بلوغ عدد المليارديرات فى العالم العربى وحده إلى أكثر من ثلاثين مليارديرًا تبلغ إجمالى ثروتهم أكثر من 125 مليار دولار، ولو بقينا على هذا الحال من اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وأغفلنا حكمة الزكاة، ولم نطور تطبيقها وفقًا لمفاهيم العصر الاقتصادية ضمن الإطار العام للشريعة، فسيظل دورها قاصرًا وشبه معدوم ولن يتحقق الاستثمار والتنمية الحقيقية. المشكلة الحقيقية فى أن فهمنا للزكاة قد أصبح قاصرًا على أنها مجرد صدقة بنسبة محددة تخرج من أموال الأغنياء إلى الفقراء، بينما فى الحقيقة لا يمثل الفقراء سوى بابًا واحدًا من ثمانية أبواب يمكن توجيه دفة الأموال إليها لتحقيق التنمية الحقيقية.. خذ عندك مثلًا بند "المساكين"، وهو البند الذى يجب أن يخصص لمساعدة من يعيش على الكفاف، وهدفه الرئيس التخلص من مشكلة الفقر نهائيًا بتهيئة الفقير لكى يكسب عيشه بنفسه، و ذلك بعدة طرق منها التدريب المهنى وتوفير معدات العمل وإنشاء صناديق تتيح للشباب تملك أعمالهم والتحول من أجراء إلى شركاء، وبالتالى فإن هذا البند بكامله يهدف إلى تنمية فئة كبيرة من المجتمع، ونقلها من طبقة الآخذين إلى طبقة المزكين. أما إذا انتقلنا إلى البند الثالث من أوجه إنفاق الزكاة، وهو "العاملين عليها" أى الموظفين القائمين على جمع وتوزيع الزكاة، لو أخذنا بهذا المبدأ وكانت نسبة12.5 % التى تمثل ثمن الزكاة هى السقف الذى لا يجوز أن تتجاوزه نفقات الجهاز الإدارى للدولة فى أى نشاط، لكان أمامنا معيار تنموى ممتاز، و لما توسعت حكوماتنا فى نفقات إدارية غير إنتاجية استهلكت معظم ميزانية الدولة.. قس على ذلك أيضًا بند "الغارمين" الذين تراكمت عليهم الديون فلا يستطيعون سدادها، فلو تصورنا وجود صندوق مخصص من أموال الزكاة يدفع منه لكل من استدان بغرض الاستهلاك، ولم يتمكن من سداد الديون لظروف خارجة عن إرادته، فإن المنتجين سيقبلون على البيع بالتقسيط بضمان ذلك الصندوق الذى سيدفع عن المتعثرين، وبالتالى تزداد حركة التجارة مما يخلق طلبًا يؤدى إلى دوران عجلة الإنتاج وتقليل البطالة، وعلى غرار هذا الصندوق يمكن إنشاء صناديق لتشجيع الصادرات.. كما يمكننا بنفس الطريقة فهم معنى بند "ابن السبيل"، وهو كل مسافر لم يستطع العودة إلى بلده سواء كان سفره لحج أو تعليم أو علاج أو سياحة، وهو يستحق الزكاة حتى وإن كان غنيًا فى وطنه، هذه الزكاة يمكن دفعها من خلال صندوق "ابن السبيل"، والذى سيؤدى إلى رواج السياحة وطلب العلم لاطمئنانهم لوجود الصندوق الذى يعمل كتأمين لهم فى حالة الانقطاع أو السرقة، وذلك سيؤدى إلى زيادة الزائرين فيزيد الطلب على السلع وتزيد فرص العمل. والآن علينا أن نمعن النظر ونجهد الفكر فى الشكل المعاصر لبند "الرقاب" التى يمكن إعتاقها كباب من أبواب الزكاة، صحيح أن الرق قد انتهى بمفهومه التقليدى، ولكنه انتقل إلى شكل آخر يتمثل فى الرق الأبيض للفتيات اللاتى يبعن أجسادهن لتتمكن من العيش، ويمكن أن يصرف من هذا الصندوق على مكافحة البغاء الناتج عن الفاقة، وذلك بإقامة المشروعات وتشغيل الأيدى العاملة خاصة العنصر النسائى. كذلك يمكن فهم باب "المؤلفة قلوبهم"، بأنها كل ما يؤدى إلى تأليف القلوب حول الإسلام، أو على الأقل جعل الأعداء على الحياد منه، ومن أمثلة ذلك الإنفاق على وسائل الإعلام ومراكز اتخاذ القرار فى الدول المختلفة، ولنا أن نتخيل النتيجة لو وجهت نسبة 12.5 % من أموال الزكاة إلى الإعلام، وإلى رجال السياسة فى الغرب فى محاولة لجلب نفعهم ودرء ضررهم. أما بند "فى سبيل الله" فيجب أن نفهمه بشكل أوسع من مفهوم الحرب أو الجهاد فقط، فالسبيل هو الطريق الموصل إلى رضاء الله وهو كل ما يحفظ للأمة مكانتها، ويشمل الدعوة بمعناها الواسع، حيث يمكن اعتبار أحد أنواع الجهاد فى هذا العصر هو الجهاد بالكلمة والإعلام وإنشاء القنوات الفضائية التى تساهم فى بناء المجتمع. وفى النهاية.. لا بد من التأكيد على أن ما نقلته اليوم من اجتهادات لبعض أهل العلم والاختصاص فى التطبيق المعاصر لمصارف الزكاة يعطيها مفهومها الأصيل باعتبارها لا ترمى فقط إلى إشباع جائع أو كسوة عارٍ لمرة واحدة، بل هدفها إيجاد مؤسسات مستقرة ومستمرة تلبى حاجة الفقراء والمساكين وتحولهم إلى فئة دافعى الزكاة، بالإضافة إلى دورها فى مساندة الدعوة الإسلامية وتطوير المرافق وتشجيع التمويل الرشيد وإقامة المعاهد والفضائيات وتشجيع السياحة الدينية والصحية، ويبقى دور العلماء هو الأهم فى هذا الإطار من خلال الاجتهاد المستمر الذى يهدف إلى نشر هذه المفاهيم وتصحيحها، والعمل على تحويل نهضة الأمة من حلم إلى واقع. [email protected]