تنوعت الوثائق اليهودية فى مصر تنوعًا كبيرًا، فمنها ما هو قديم وأثرى كبرديات جزيرة فيلة بأسوان. ومنها ما هو وسيط وحديث كوثائق الجنيزا بالقاهرة. الوثائق القديمة والأثرية متاحة للجميع، بمن فيهم اليهود، لالتقاط الصور عبر الزيارات المفتوحة لهم. فبرديات فيلة التى تضم وثائق ورسائل مكتوبة بالآرامية، وتصف حياة الجنود اليهود المشتركين فى الحامية الحدودية المصرية الجنوبية، وكل المعابد والمقابر والأماكن التى تحوى آثارهم، هى متاحة لهم لتصوير ما يشاءون. ولعل قصة بنائهم للأهرامات وغيرها من قصص روجت عبر هذا الدخول والخروج المنتظم لهم بعد معاهدة السلام. أما وثائق الجنيزا التى تتحدث عن اليهود فى مصر فى العصر الإسلامى، منذ القرن الحادى عشر الميلادى، وتمتد لتشمل بعض أجزاء العصر العثمانى، والتى وجدت فى معبد بن عزرا فى القاهرة، وتضم أوراقًا ووثائق خاصة بهم وبديانتهم وأحوالهم بما يتجاوز ال 200 ألف وثيقة، هى متاحة لهم بكل سهولة. وهذه الوثائق تحتوى على شهادات الزواج والطلاق وعقود تجارية وأشياء تتعلق بالديانة اليهودية ومشاركتهم فى مجريات الأحداث المصرية. أما وثائق اليهود فى مصر فى العصر الحديث فهى متنوعة، لكنها متناثرة فى بطون الأرشيفات المصرية المتعددة. فى أرشيف الوزارات السيادية والوزارات المختلفة والمؤسسات والشركات وأرشيف وزارة الخارجية ومجلس الوزراء ومجلس النواب وغيره من أرشيفات. تضم كل اليهود القدامى والمحدثين، ممن جاءوا إلى مصر فى القرن 19. وهذه الوثائق تخضع لمعايير محددة يلتزم بها كل باحث يريد الاطلاع عليها، ومقرها دار الكتب والوثائق القومية. أما مجموعة الجينزا الجديدة التى وجدت فى بيت موصيرى، وتشمل الرسائل المتبادلة بين اليهود المصريين وأقاربهم فى إسرائيل، وتضم عقود البيع والشراء وتتطرق لشتى النواحى الاجتماعية والاقتصادية فهذه متاحة أيضًا. لكن الأكثر إتاحة من جملة وثائق العصر الحديث، هى مجموعة اليهود الربانيين فى مكتبة المجلس الأعلى للثقافة. ورغم أنها وثائق مهمة، تشمل ست محافظ موضوعة على ثلاثة أفلام ميكروفيلمية، إلا أنها متاحة للتصوير لأى شخص يطلبها ومجانًا على حساب المكتبة، فضلاً عن الصحف الناطقة باسمهم فى دار الكتب، كالشمس والكليم وإسرائيل والتسعيرة وغيرها. وعلى هذا، فإن معظم وثائق اليهود فى مصر هى متاحة للجميع دون أدنى قيود. أما الوثائق التى تخضع لقيود فهى الوثائق الخاصة بدار الكتب والوثائق القومية. وتتعلق بشئونهم منذ العصر العثمانى حتى نهاية وجودهم مع حرب 1967. وهذه الوثائق تخضع لإجراءات رسمية قبل دخول الدار وبعدها، تطبق على جميع الباحثين، المصريين والأجانب. بدءًا من موافقة الأجهزة الأمنية المختلفة، وانتهاءً بالمراقبة الصارمة عبر أجهزة التأمين الموجودة فى الدار، والنظام الصارم للاطلاع والتصوير. وهذا لا يعنى أن القيود الرسمية قد حدت من فرص تسريب الوثائق الخاصة بهم، أو التعرف على محتوياتها. حيث يأتى للدار سنويًا باحثون يهود وأجانب، يتاح لهم الاطلاع والتصوير مثلما يتاح لغيرهم من الباحثين. فكل باحث يحق له تصوير 100 ورقة وثائقية، بغير ما يتاح له من الاطلاع على ما يشاء من ملفات ومحافظ. وربما كان تعاون الباحثين الأجانب بعضهم البعض، وإتاحة الفرصة لبعض مشاهير مؤرخيهم بتصوير ما يشاءون، حسب الفرص التى يتيحونها لمسئولى الدار لزيارة بلدانهم ودعوتهم للمشاركة فى المؤتمرات والفعاليات الأوروبية والأمريكية، هو الذى يعطى الميزة لهم فى أن تصبح القيود الرسمية والأمنية لا قيمة لها. ففى ظل الاختراقات الفردية التى تتم بشكل شخصى وودى للغاية، بات معروفًا كل ما تحويه الدار من وثائق وبيانات تخصهم. وعلى هذا، فإن الزعم بوجود محاولات يهودية لتهريب وثائقهم، واستغلالها للمطالبة بتعويضات، إنما هى مجرد زوبعات صحفية ليس لها أرضية فى الواقع. فقد أثير هذا الأمر من قبل سنة 2008، ثم تجدد الحديث بمحاولة أكتوبر 2012. فمجرد حديث المحاولة الأخيرة عن الأرقام التى وصلت لطنين ونصف أو مليون وسبعمائة ألف وثيقة تثبت ملكيتهم لأراضٍ وعقارات فى القاهرة، يقطع بأن الأمر فيه مبالغة كبيرة. وشغل للرأى العام عن تنازع المؤسسات الذى يجرى، ومجرد فرقعات صحفية وإعلامية للتغطية على الصراعات السياسية بين الرئاسة والمعارضة. بل إن ادعاء سرقتها من المجمع العلمى المصرى بعد إحراقه، يؤكد أن الحادث ملفق، وليس له أساس من الصحة. فلا هذا العدد الكبير يوجد بالمجمع العلمى، ولا المجمع نفسه يحتفظ بوثائق الأملاك أو يختص بحفظها. فالزعم بأن الوثائق التى فشلت محاولة تهريبها تحتوى على حجج وعقود أراض ومحال تجارية تخص محلات شملا وشيكوريل وعدس وريفولى وجاتنيو وصيدناوى وفندق ماريوت الزمالك، ربما يكون صراعًا بين أطراف داخلية مصرية حول ملكية تلك المحلات والفندق، أكثر مما تقدمه الراوية المختلقة عن قصة التهريب. فالمجمع العلمى ليس هو المكان الذى تذهب إليه مثل هذه النوعية من الوثائق. فضلاً عن أن تصريح رئيس دار الكتب والوثائق القومية بأن المحاولة كانت تضم مستندات خطيرة حول العدوان الثلاثى على مصر، ونكسة 1967 ونصر أكتوبر 1973 هو مغاير لكل ما تناقلته الصحافة المصرية والعالمية حينذاك. فإذا كانت كل متعلقات المجمع العلمى بعد حرقه قد ذهبت للدار التى يرأسها، ولم يثبت أن بها وثائق تتعلق باليهود، بل ويتعارض مع تصريح لاحق له، بأن الدار لا علاقة لها بالمستندات اليهودية المضبوطة، فإن المبالغات بشأن أملاك اليهود وحصولهم على الوثائق التى تدعم موقفهم، هو حديث للاستهلاك السياسى فقط. ولعل حديثنا المقبل عن الإشكاليات المتعلقة بخروجهم وعودتهم، يعالج ما غاب عن السياسيين من إلمام تاريخى بهذا الشأن. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.