منذ كتب عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد في أوائل القرن الماضي ونحن نكتشف زوايا ومعاني ونتائج جديدة لظاهرة الحكم المستبد. ومن ذلك ما نسميه في هذا المقال بشرانق الخوف ، حيث ينطوي الإنسان علي نفسه، مبتعداً عن الشأن العام، اتقاءاً للأذي، وخوفاً من البصاصين الذين يبثهم السلطان في كل مكان. ومن طول هذا الانطواء علي الذات، تتكون حول هذا الإنسان تدريجياً ما يشبه الشرنقة ، التي تحمي بها بعض الكائنات الدنيا في عالم الحيوان نفسها، ومنها دودة القز ، وأخري تنعزل في مخابئها في بيات شتوي طويل. وقد أصبح ذلك حال معظم المصريين والعرب من جراء أنظمة الحكم المستبدة طوال النصف قرن الأخير. وحين كتب عبد الرحمن الكواكبي، كان يصف ويحلل استبداد السلطان العثماني والإمبراطورية العثمانية في القرنين الأخيرين من عمرها. فرغم ضعفها وانحلالها في مواجهة الإمبراطوريات الغربية الصاعدة، إلا أنها كانت تستأسد علي رعاياها في الداخل، فتقهرهم وتستغلهم، وتنكل بمن يرفع رأسه، وتفتك بمن يجرؤ علي المساءلة أو العصيان. وكانت هذه الازدواجية أي الضعف الشديد في مواجهة الأعداء والخصوم في الخارج والقسوة الشديدة علي رعاياها في الداخل - هو الذي أكسب الإمبراطورية العثمانية وصف رجل أوربا المريض . ورغم هذه الازدواجية، وهذا الضعف والانحلال فقد ظل رجل أوربا المريض علي قيد الحياة إلي أن سقط عام 1924 علي أيد بعض رعاياه، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولي (1914-1918). كان استبداد الإمبراطورية العثمانية تنويعة لنوع من الاستبداد، يطلق عليه المؤرخون وعلماء الاجتماع الاستبداد الشرقي Oriental Despotism، حيث تتركز السلطة في شخص حاكم فرد أوحد. فهو الآمر الناهي، الذي يملك كل شيء، ويسيطر علي أي شيء، وهو الفرعون، أو الملك - الإله. وهو الإمبراطور والخليفة والسلطان. فإن لم يكن هو الإله نفسه، فهو ظل الإله علي الأرض. وفي كل الأحوال فإن سلطته مطلقة وطاعته الكاملة واجبة. والحاكم الشرقي المستبد هذا لا شريك له في الملك. ولا رقيب ولا حسيب له أو عليه. ولكن القرن العشرين شهد نوعين اضافيين من الاستبداد. أحدهما يسمي بالاستبداد الشمولي وهو استبداد حزب أيدولوجي مثلما رأينا في أنظمة الحكم الماركسية والشيوعية. وكان الاتحاد السوفييتي هو نموذجها الأول. ولا تزال الصين وكوريا الشمالية وكوبا تنويعات لهذا الاستبداد الشمولي، أما الثاني فهو نظام الحكم السلطوي. وفي هذا الأخير فإن الذي يستبد ويسيطر هو مجموعة صغيرة عرقية أو طائفية أو قبلية. وقد شهد عالمنا العربي نماذج عديدة لهذا الاستبداد السلطوي مثلما رأينا في عراق صدام حسين، وفي سوريا الأسد (الأب والابن)، وفي ليبيا القذافي، وفي سودان البشير والترابي. أما في مصر المحروسة، ولأنها أم الدنيا، فقد جمعت بين أنواع الاستبداد الثلاثة: الشرقي، والشمولي، والسلطوي. فبداية كانت مصر الفرعونية هي مبدعة الاستبداد الشرقي، والذي تناسخ علي امتداد عصور تالية، كان آخرها في حقبتي المماليك والعثمانيين، ثم في عهد محمد علي (1805-1847). ثم جاءت حقبة ثورة يوليو والزعامة الناصرية (1952-1970) والتي تحالف في معظمها مع الاتحاد السوفييتي وبلدان الكتلة الشرقية فأخذ منها وعنها كل ممارسات الاستبداد الشمولي. أما في الحقبة الساداتية (1970-1981) فقد كان الرجل مولعاً بكل من هتلر وموسوليني، أي بالاستبداد السلطوي (النازي الفاشستي). وأظن أننا جميعاً قرأنا عن محاولات السادات في شبابه للتحالف والانضمام إلي قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا) علي حدود مصر الغربية، أثناء الحرب العالمية الثانية. وجاء حسني مبارك إلي قمة السلطة في مصر، عقب اغتيال الرئيس السادات (اكتوبر 1981). وها هو يسجل رقماً قياسياً في طول البقاء في السلطة. فهو أطول رئيس جمهورية (سنتين لمحمد نجيب، وستة عشر سنة لجمال عبد الناصر، وإحدي عشر سنة لأنور السادات). وسجل حسني مبارك ثالث أطول فترة في حكم مصر خلال الخمسة آلاف سنة من تاريخها الموثق وتحديداً بعد الملك رمسيس الثاني، مؤسس الإمبراطورية المصرية القديمة، ومحمد علي، مؤسس الدولة المصرية الحديثة. إلا أن حسني مبارك ورث واستغل الإرث المتراكم لكل أشكال الاستبداد التي شهدتها مصر في تاريخها الطويل، وكذلك تلك التي أبدعتها البشرية في القرن العشرين. وكانت إحدي نتائج طول البقاء في السلطة رغم تواضع الإنجازات في سنواته العشر الأولي، وغيابها في سنواته العشر التالية، ونهبها ونهب أصول اقتصادية أخري في بقية سنوات حكم مبارك. وكانت النتيجة الثانية هي انصراف المصريون بشكل متزايد عن الشأن العام، والتركيز علي الشأن الخاص. أما من ظلوا يهتمون بالشأن العام فقد أصبحوا أقلية متناقصة بسبب الرعب والإرهاب الذي تمارسه أجهزة النظام. وقد وثّقت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، والعفو الدولية، ومنظمات حقوقية أخري في الداخل والخارج ما حدث ويحدث من بشائع الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري للمعارضين والمنشقين. ولعل اختفاء منصور الكخيا، وزير الخارجية الليبي الأسبق باختطافه من أمام فندق سفير بالدقي، قبل عشر سنوات، ثم اختفاء الصحفي المصري، رضا هلال، نائب رئيس تحرير الأهرام منذ سنتين هي أشهر حالات هذا الاختفاء القسري، التي عجزت الأجهزة الأمنية الرسمية المسئولة عن حل ألغازهما إلي تاريخه ربما لأن أجهزة أخري سرية وغير رسمية هي التي تخطط وتنفذ وتخفي معالم تلك الجرائم. وربما هذه الأخيرة هي التي دبرت حادث اختطاف أ. عبد الحلم قنديل، رئيس تحرير جريدة العربي الناصري، وضربه وتجريده من ثيابه. لقد أصبحت شهرة مصر في التعذيب والاختفاء القسري تجوب الآفاق، ولا يتنافس معها في هذا الصدد في الوقت الحالي إلا شقيقتان استبداديتان هما سوريا وليبيا. وقد وثّقت مجلة النيويوركز الشهيرة الحالات التي استأجرت فيها كل من الولاياتالمتحدة وكندا والسويد خدمات مصر في تعذيب معتقلين سياسيين للحصول منهم علي اعترافات، حيث أن القوانين الداخلية لهذه البلدان الغربية تمنع التعذيب، وتعاقب من يأمر به أو يمارسه من العاملين في أجهزتها الرسمية ولكن مصر في عهد مبارك رحبت بالقيام بهذه المهمة القذرة لقاء أجر معلوم (لمن أمروا ونفذوا). المهم لموضوعنا هو أن هذا الاستبداد المركب قد جعل معظم المصريين ينطوون علي شئونهم الخاصة خوفاً مما يمكن أن يحدث لهم علي أيدي الأجهزة الأمنية - الرسمي العلني منها، أو السري غير الرسمي، وهذا الخوف والانطواء علي الذات هو الذي خلق من كثير من المصريين شرانق متحركة تتعايش جنباً إلي جنب، ولكنها لا تتفاعل ولا تتواصل. ومن السهل أن تدعوها لمقاطعة أي شئ، ولكن من الصعب أن تدعوها للمشاركة في أي شئ. من ذلك أن دعوة أحزاب المعارضة وحركة كفاية لمقاطعة الاستفتاء الأخير علي تعديل المادة (76) من الدستور، جاءت أقرب لحالة الشرنقة التي دخلها معظم المصريون. فلم يشارك في ذلك الاستفتاء إلا 12% طبقاً لما سجله مراقبوا ابن خلدون يوم 25 مايو، وأكده بعدها بأسبوعين تقرير نادي القضاة. والشيء بالشيء يذكر، يعجب كثير من المراقبين في الداخل والخارج أن حوالي مليون مصري من السبعين إما أنهم لم يتشرنقوا أصلاً، أو أنهم خرجوا من شرانقهم وهذا المليون هو الذي يحدث كل هذا الضجيج طوال السنة الأخيرة، التي شهدت مولد الحركة الشعبية للتغيير، المعروفة باسم كفاية. وكذلك حركات الأساتذة، والأطباء والمهندسين، والصحفيين، وأندية القضاة. وربما كان ذلك رحمة بشعب مصر. أنه رغم الاستبداد وخوف الأغلبية، فهناك أقلية كسرت جدران شرانق خوفها وخرجت إلي الفضاء العام. وربما تساعد هذه الأقلية كسر شرانق خوف الأغلبية، ليخلص الجميع في مصر والوطن العربي كله من الاستبداد. آمين ------ صحيفة الراية القطرية في 11 -7 -2005