مقرر المحور الاقتصادي بالحوار الوطني: أؤيد خروج الدولة من الصناعات إلا إذا كان هناك مبرر    9 شهداء بينهم رضيعة جراء قصف الاحتلال منزلين في حي التفاح شرق غزة    روسيا: مقترح بوتين للسلام مع أوكرانيا ليس مهلة محددة.. ونحذر من رفضه    عصام مرعي: الزمالك ظهر بشخصيته أمام سيراميكا.. ومغادرة سامسون غير مؤثرة    «هذه أولويتي».. محمد شريف يكشف موقفه من الانضمام إلى الزمالك    استشاري أمراض جلدية يحذر من التعرض للشمس في هذا الوقت    السعودية تعلن اكتمال تفويج الحجاج إلى منى وبدء تصعيدهم على عرفات    لطيفة تتحدث عن وفاة والدتها لأول مرة    مدير المسرح القومي: الحضور يكون كامل العدد في الأعياد.. وعروضنا ترسم البهجة    تتعاون فيه مع القيصر.. لطيفة: طرح ألبومي الجديد خلال موسم عيد الأضحى    دعاء يوم عرفة مستجاب.. «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» ردده الآن بعد أذان الفجر    يوم عرفة 2024.. أفضل الأعمال المستحبة وخير الدعاء المستجاب وكيفية اغتنامه    «البحوث الإسلامية» يوضح أفضل كلمات دعاء فجر يوم عرفة: احرص عليها    «كاف» يعتمد دورات تدريبية في مصر لرخص المدربين بينها «المسار السريع»    لأول مرة.. كارت ذكي مع حجاج السياحة به تليفونات البعثة الطبية وموقعها الجغرافي    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    الحجاج في منى يوم التروية.. ومشعر عرفات يتأهب لاستقبالهم    بدء صرف الخبز المدعم للمصطافين بمصيف بلطيم في كفر الشيخ غدا    إحدى أوائل الثانوية العامة: كنت أسمع القرآن الكريم بعد مراجعة المادة حتى أهدأ    عيار 21 يعود لسابق عهده في وقفة عرفات.. أسعار الذهب اليوم بالصاغة بعد الارتفاع الكبير    «الصحة العالمية» تعبر عن قلقها بشأن الأزمة الصحية المتزايدة في الضفة الغربية    وفاة الكاتب السوري فؤاد حميرة نتيجة أزمة قلبية حادة    حظك اليوم برج الأسد السبت 15-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    محامي سعد أسامة يكشف مفاجأة عن واقعة الصفعة: «عمرو دياب اللي طلب منه» (فيديو)    «سلوكي كان غلط».. تصريح مفاجئ من شوبير على أحمد الطيب    «زي النهارده».. مقتل المناضل شهدى عطية أثناء تعذيبه في المعتقل 15 يونيو 1960    بتوقيع محمد سامي.. عمرو سعد يشارك في دراما رمضان 2025    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية الأسبوع السبت 15 يونيو 2024    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في بداية الأسبوع السبت 15 يونيو 2024    «الجهل ليس له دواء».. نجم الزمالك السابق ينتقد عدم اختيار عبدالله السعيد رجل المبارة    تعرف على مجموعة تساف 9 الإسرائيلية التي عاقبتها واشنطن    متى يكون الدين الخارجي في مرحلة آمنة؟.. وزير المالية الأسبق يكشف    فيلكومن أوروبا    سباليتي: العمالقة والأبطال لا يخشون خوض مباراة كرة قدم.. وألبانيا فريق صعب    مصرع طفلة وشقيقتها الرضيعة سقطتا من شرفة منزلهما بالشرقية    ألمانيا تكتسح اسكتلندا بخماسية في افتتاح اليورو    النصر يغري ريال مدريد ب 100 مليون لضم مدافعه    محافظ الغربية يواصل متابعة الاستعدادات لعيد الأضحى المبارك    الإفتاء تؤكد: برُّ الوالدين أحد أسباب تكفير الذنوب    إذا أردت ثواب يوم عرفة افعل هذه الأمور    نصائح لتجنب الأضرار الصحية لطقوس الطعام في عيد الأضحى    رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك فى حفل تخرج الكلية المعمدانية    بملابس الإحرام.. الرئيس السيسي يصل جدة لأداء مناسك الحج (فيديو)    توجيه عاجل من رئيس جامعة الأزهر لعمداء الكليات بشأن نتائج الفرق النهائية    صيام يوم عرفة، أشياء لا تتناولها في السحور للتغلب على درجة الحرارة    عاجل| القطاع العائلي في مصر يستحوذ على 58% من إجمالي الودائع غير الحكومية بالعملات الأجنبية في البنوك    نقيب الإعلاميين يهنئ السيسي بحلول عيد الأضحى    غارات صهيونية على قطاع غزة مع استمرار فشل محادثات الهدنة.. بايدن يتهم حماس بأنها العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق.. والاحتلال يستولى على أموال السلطة الفلسطينية    كيف تساعد مريض الزهايمر للحفاظ على نظام غذائي صحي؟    «صيام»: نطبق استراتيجية متكاملة لتعريف المواطنين بمشروع الضبعة النووي| فيديو    «التنسيقية».. مصنع السياسة الوطنية    الجيش الإسرائيلي يعلن رصد 35 قذيفة صاروخية أطلقت من لبنان    وكيل «الصحة» بمطروح: تطوير «رأس الحكمة المركزي» لتقديم خدمات طبية متميزة للمواطنين    ماذا يحدث للجسم عند تناول الفتة والرقاق معا؟    وزير الري يوجه برفع درجة الاستعداد وتفعيل غرف الطوارئ بالمحافظات خلال العيد    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    ماس كهربائي كلمة السر في اشتعال حريق بغية حمام في أوسيم    كتل هوائية ساخنة تضرب البلاد.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى طبائع الاستبداد
نشر في المصري اليوم يوم 24 - 10 - 2010

من أكثر الموضوعات إثارة فى أدبيات الفكر السياسى، وأيضا فى الكثير من الأعمال الأدبية الكبرى فى العالم، موضوع أثر الاستبداد فى الأخلاق، أو - بتعبير أكثر تفصيلا - أثر ممارسات النظم اللاديمقراطية (سواء سميناها نظماً مستبدة، أو سلطوية، أو شمولية... إلخ) على قيم وسلوكيات البشر الخاضعين لتلك النظم.
وربما يمكن الإشارة هنا إلى أعمال فكرية متباينة بشدة ولكن يجمع بينها أنها حاولت رفض ذلك التأثير، كل من زاويتها الخاصة، وأقصد على وجه الخصوص كتاب عبدالرحمن الكواكبى الشهير والرائع «طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد» الذى ظهر أول مرة عام 1901، ورواية الأديب الإنجليزى الشهير جورج أورويل «مزرعة الحيوانات» الذى ظهر عام 1948، وأخيرا أعمال نجيب محفوظ، خاصة «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية»... إلخ.
إن ما يجمع بين تلك الأعمال المتباينة - وغيرها كثير بالطبع - أنها ليس فقط تلقى الضوء على التأثيرات السلبية للحكم اللاديمقراطى المستبد على مفاهيم وسلوكيات الأفراد العاديين واتجاههم للعزلة أو اللامبالاة، وتجنب الصدام مع السلطة والابتعاد عنها بل وتجاهلها! ولكنها أيضا تلقى الضوء الكاشف على عناصر «النخبة» التى تقدم نماذج للنفاق والمداهنة والانتهازية، وهى كلها ظواهر تلتصق بشدة بالنظم المستبدة اللاديمقراطية أو الديكتاتورية بصورها المتعددة الشمولية أو السلطوية... إلخ، وهو ما أسعى لإلقاء الضوء عليه فى ذلك المقال.
الكواكبى العظيم يقول بالنص - فى تحليله لتأثير الاستبداد على الأخلاق، وكيف أنه يؤدى إلى قلب الحقائق فى الأذهان-: «إن الناس وضعوا الحكومات لخدمتهم.. والاستبداد قلب الموضوع فجعل الرعية خادمة للرعاة، فقبلوا وقنعوا.. وقبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك الحق مطيع، والمشتكى المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين.. واتبع الناس الاستبداد فى تسمية النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوا، والحمية حماقة، والرحمة مرضا، والنفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفاً، والنذالة دماثة».
غير أن ما يلفت نظرنا هنا - فى حديث الكواكبى - هو تفرقته بين ما يسميه «المجد» و«التمجد». فالمجد عنده هو كلمة واسعة تتسع لكل القيم والأخلاقيات وأنماط السلوك الراقية اجتماعيا وثقافيا ودينيا، والمثقف المجيد هو ذلك الإنسان الذى يحترم ذاته، ويحترم مواطنيه، وتكون لديه من الشجاعة ما يمكنه من أن يعبر بصدق عن آمالهم وآلامهم، وأن ينتقد بشجاعة بلا خوف ممارسات الحكام المستبدين وفسادهم. أما ما يسميه الكواكبى «المتمجد» أى مدعى المجد، فهو ذلك البوق الأيديولوجى عن المستبد، الذى يزيف الحقائق والوقائع، ويقلب الأمور رأسا على عقب لأنه يخفى أهداف المستبد الذاتية الضيقة، ويحولها إلى أهداف باسم الأمة.. (انظر دراسة د. أحمد البرقاوى فى كتاب: الإصلاح الدينى ومصائره فى المجتمعات العربية).
إن المتمجد لدى الكواكبى هو ذلك المثقف الذى لا يكف عن الهتاف - سواء كان شيخا أم أفنديا أم تقنيا - للمستبد فيتحول هو بالتدريج إلى مستبد صغير، فيتوالد الاستبداد ويعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة.
والمتمجد - فى نظر الكواكبى - مسؤول عن فساد العقل لأنه يحوله عن وظيفته النقدية إلى مجرد تبرير للوضع الراهن وتبرير لقبحه! ورحم الله د. نصر حامد أبوزيد فى حديثه - تعليقا على أفكار الكواكبى: «المشكلة فى الاستبداد، وقرينه الفساد، أنه يجد من يروج له من بين ضحاياه أولئك الذين فسد عقلهم وفسد دينهم، واستبدلوا بالمجد التمجد. لا بديل إلا فتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقى بؤر الفساد ويتحلل الاستبداد. هذا هو واجب المثقفين الذين كفوا عن الهتاف».
فإذا انتقلنا نقلة كبيرة إلى عمل فكرى آخر مهم ظهر فى ظروف سياسية مختلفة كثيرا، وهو رواية «مزرعة الحيوان» للأديب الإنجليزى الشهير جورج أورويل، التى نشرها بعد بحث الكواكبى ب 45 عاما، فإننا نجد معالجة لنفس الظاهرة - ظاهرة المنافقين والمتسلقين من خدم السلطة - ليس مثل النقد الضمنى من الكواكبى للممارسات الديكتاتورية للسلطان العثمانى فى بداية القرن العشرين، ولكنه موجه مباشرة للمناخ السياسى الفاسد الذى عشش فى ظل الديكتاتورية الشيوعية التى تجلت بأوضح صورها فى ظل حكم استالين فى أربعينيات القرن الماضى. والرواية بشكل عام لا تعرض فقط فساد الثورات على أيدى قادتها، وإنما أيضا كيف يدمر الانحراف واللامبالاة وقصر النظر أى أمل فى إقامة مجتمع فاضل متوازن.
فى «مزرعة الحيوان» نجد أكثر من شخصية ذات مغزى! ففى حين نجد الخنزير «نابليون» الشخصية الرئيسية فى الرواية، والتى بنيت على مشابه مثيرة مع شخصية ستالين، نجد بجانبه الخنزير «سكويلر» الذى يعمل وزيرا لدعايته - مستوحى من شخصية مولوتوف ومحرر صحيفة البرفدا! إنه يطوع اللغة والأفكار والمفاهيم لتأصيل وتعظيم كل أفعال نابليون، وهو يمثل الغطاء الإعلامى الذى استخدمه ستالين لتبرير أفعاله! وحرص أورويل على بيان الكيفية التى يطوع بها ذلك النوع من «المثقفين» السياسيين اللغة لملاءمة أغراضهم، ف«سكويلر» يعقب ويقعر المجادلات ويربك المتحاورين ويدعى أن الخنازير فى حاجة إلى الرفاهية التى ينالونها قسرا دون غيرهم ليعملوا لصالح الجميع! وهو لا يكف عن استخدام الإحصائيات والأرقام ليقنع الحيوانات بأن نوعية حياتهم تتحسن باطراد! وهنا أيضا شخصية مينيامس «الخنزير الشاعر الذى يكتب النشيد الوطنى الثانى ثم الثالث لمزرعة الحيوان»، وأيضا هناك «بنيامين» الحمار العجوز الحكيم، ويمثل بشكل تهكمى نوعية المثقفين الذين لديهم من «الحكمة»! ما يساعدهم على البقاء، فلا يتخذون أى موقف، إيثارا للسلامة وتجنبا للمشاكل! وأخيرا هنا القطة التى تمثل المنافقين الذين يتظاهرون بالولاء لفكر القائد لمجرد تحقيق أغراض ذاتية ومنافع شخصية.
فإذا ما قفزنا قفزة كبرى ثالثة إلى أعمال أديب مصر العظيم نجيب محفوظ وجدنا أكثر من تجسيد عبقرى لشخصية الانتهازى المنافق ربما كان أشهرها «محجوب عبدالدايم» فى «القاهرة الجديدة». فهو وغد يعلم أنه وغد، ويفخر أنه وغد، وصنع من سفالته فلسفة كاملة! بشعاره الدائم فى الحياة (طظ) لكل ما يقف فى طريقه أو يحول بينه وبين تحقيق أهدافه، أى اللذة والقوة من أقصر طريق، إلى حائل من أى قيم أو فضائل أو دين! ولقد استمات للثبات على فلسفته كما يفعل أصحاب الرسالات السامية! وعندما كان ثمن وظيفته أن يتزوج عشيقة البك الكبير الذى أتاح له تلك الوظيفة، لم يتردد أن يتغاضى عن علاقة البك بزوجته!
غير أنه إذا كانت شخصية المنافق الانتهازى كما جسدها الكواكبى فى نموذج الإنسان «المتمجد» فى «طبائع الاستبداد»، وكما رسم بعض نماذجها جورج أورويل فى «مزرعة الحيوان» ارتبطت بشكل صريح بالمناخ السياسى الاستبدادى، فإن شخصية محجوب عبدالدايم لدى نجيب محفوظ وُجدت فى مناخ افتقد إلى الديمقراطية الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية التى جعلت شخصا ريفيا مثقفا يتخلى عن كرامته مقابل مجرد الحصول على وظيفة! ولكنها بالتأكيد ترمز بشكل عام الى طراز معين من المثقفين «أو المتعلمين» الذين هم على استعداد للتخلى عن كثير من القيم والمبادئ والشعارات!! فى مناخ لاديمقراطى، استبدادى، باعتبار أن ذلك التخلى هو الثمن اللازم دفعه سواء للحصول على المنصب أو المغنم أو لاستمراره!
والواقع أنه قدر لى شخصيا من خلال تجربتى الخاصة جدا أن أصادف نوعيات تلك الشخصيات التى أفرزها - ولايزال- مناخ الاستبداد اللاديمقراطى أو قل أيضا المناخ البوليسى - الأمنى- الخانق الذى يسود الأجواء العامة فى مصر. ففى وقت من الأوقات قبل عام 2005 كنت موجودا فى المجلس الأعلى للسياسات بالحزب الوطنى لمدة ثلاث سنوات فقط! غير بعيد عن قيادته وعن نخبة الحكم بشكل عام، ثم حدث عام 2005 أن ابتعدت عن هذا كله، بمحض إرادتى من مجلس السياسات من الحزب الوطنى، اعتراضا أو احتجاجا على «التعديلات» المشينة التى جرى تمريرها على المادة 76 الشهيرة فى الدستور المصرى.
إن هذا الانتقال من موقع قريب من السلطة، إلى موقع آخر ضمن المعارضة، صاحبه مشهد شديد الإثارة، وعميق الدلالة حول نوعيات معينة من الشخصيات ونماذج من السلوكيات التى كان يمكن أن تلهب خيالات وإبداعات الكتاب العباقرة من نوعية الكواكبى، وأورويل، ومحفوظ! وتلهمهم نماذج أكثر غرابة وإثارة مما تناولوه وأبدعوه ولا عجب، فالمناخ السياسى - الأمنى- فى مصر، الذى طال كثيرا، أفرخ ولايزال يفرخ العديد من تلك الشخصيات والنماذج الجديرة بالبحث والتأمل والرثاء معا. وتلك قصص أخرى كثيرة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.