تمر المجتمعات عبر تاريخها الطويل بحقب تاريخية وعصور وحضارات وغالبًا ما تكون الحقبة لحاكم بعينه ويتسم عهده بسمات مغايرة لمن سبقه، والعصر لجملة من الحكام لهم أيديولوجية واحدة مع تفاوت بسيط بينهم فى نمط القيادة، أما الانتقال من عصر إلى عصر فلابد أن يسبقه مرحلة تاريخية ذات طبيعة خاصة يقودها حكام ضعفاء، ليسوا سوى أبواق ووجهات لجماعات مصالح مختلفة.. ويكون الحاكم مجرد ختامة قرارات لا يدرك مغزاها ولا توابعها، تُصنع فى غرف مغلقة بعيدة عن الشعب والحاكم، وتمر عبر مؤسسة الرئاسة لتصبح بمثابة فرمانات، يتحول بمقتضاها الرئيس من حاكم طيب إلى ديكتاتور. وفى هذه المرحلة من سقوط حضارات وبزوغ أخرى؛ ينقسم الشعب إلى ثلاث طوائف، الأولى جماعات المصالح وهى تلك التى تدعم الرئيس وتدافع عن شرعيته، ويثق بها الرئيس ويستقوى بأفرادها أكثر من استقوائه برجال السلطة، ويرضخ لتنفيذ قراراتها ولو كانت ضد مصالح الشعب؛ إيماناً منه بأن الجماعة هى التى أتت به إلى سدة الحاكم وصاحبة السلطة فى الإبقاء عليه أو عزله، وبمقتضى هذه الثقة تضع الجماعة أصابعها فى كل أمور الحكم لإحساسها العميق بأنها الوصى الشرعى على الرئيس ومقاليد الحكم وليست على استعداد للتفريط فيها، وبمقتضى ذلك يصبح الرئيس الديكتاتور بسبب تأييد جماعته رجلاً طيباً مغلوباً على أمره، ويصبح الشعب المعارض والمرغم على تنفيذ قرارات تكبل حريته شعباً مستبداً. والطائفة الثانية وهى القطاع العريض من الشعب، تفضل دائمًا الجلوس على كراسى المتفرجين على المشهد السياسى وصراع النخبة مع النظام الحاكم، ولا يدفع بها للشارع سوى العاطفة والجوع. وفى وقت اليسرة تلعب جماعة الرئيس دوماً على عاطفة الصامتين الذين حط الجهل على عقولهم، فأصبحوا لا يروا إلا أسفل أقدامهم، ويصبح للدين والميتافيزيقا تأثير السحر فى تصرفاتهم، وربما بمثابة تنويم مغناطيسى لتوجيه الصامتين الوجهة التى ترتضيها الجماعة، وفى أحسن حالات الوعى السياسى يفقد الصامتون الثقة فى كل شيء ولا يعون إلا لمصالحهم الوقتية، فيميلون إلى بيع أصواتهم لمن يدفع أكثر من المرشحين، ويصبح الكرش الكبير علامة القوة والحاصد الأقوى للأصوات فى الانتخابات، وإذا لم يجدوا من يدفع الثمن يصبح الدين هو البديل، فإن عجزوا عن شراء سعادة الدنيا بالمال؛ تنافسوا على شراء سعادة الآخرة بالتدين. ومن هنا يصبح من المفيد سياسيًا أن يتحول رجال الدين من دعاة للدين إلى رجال سياسة مستغلين رصيدهم القيمى لدى الشعب. والطائفة الثالثة هى من أطلقت على نفسها النخبة، عُرفوا لدى الشارع بتاريخهم النضالى المشرف، دائمًا ما كانت تحركهم دوافعهم الوطنية نحو الاعتراض على مفاسد الحكم، ولكن فى هذه المرحلة تتحول فيها مشاعر النخبة من الوطنية إلى أقصى درجات الأنانية؛ فلا يرون من أمور السياسة سوى ما فيه مصالحهم. وتصبح الأغلبية الصامتة هدفاً لكلا الطائفتين – جماعة الرئيس والنخبة – والذى ينجح فى استمالتها هو الذى يحظى بالسلطة، ففى حين تراهن جماعة الرئيس وأنصاره على قوة الدين تراهن النخبة على بريق المال. ولما كانت أهداف النخبة شخصية للغاية بالإضافة إلى شعورها بالفشل فى استمالة الصامتين؛ فإنهم يفضلون دائمًا الاستعانة بالقوى الخارجية لفرض هيمنة على الرئيس وجماعته وغالبًا ما يكون ذلك الضغط فى شكل ضغوط اقتصادية تمارس على النظام الحاكم يتحمل الشعب وحدة مغارمها. وهنا يحتدم الصراع المباشر بين النظام والنخبة فيسقط الاقتصاد.. ويجوع الصامتون.. فيخرجوا عن مشاعرهم إلى الشارع ليفتكوا بالطائفتين؛ فلا ينفع الرئيس جماعته ولا النخبة أصدقاءها ويشهد المجتمع بزوغ حضارة جديدة تكون السلطة فيها للشعب.