عندما يتعلق الأمر بدولة تبلغ مساحتها 682 كيلومترًا مربعًا فقط، فيما يزيد عدد سكانها عن 4 ملايين نسمة من ثلاثة أعراق مختلفة وديانات متعددة ولا توجد بها أى موارد طبيعية، فمن الطبيعى أن يقبع هذا البلد فى ذيل قائمة العالم الثالث، ولكن ما سيدهشك حقًا أن تعرف أن هذه الدولة قد نالت استقلالها عام1965، واستطاعت فى أقل من 30 عامًا أن تنتقل إلى مصاف الأمم المتحضرة فى العالم الأول وتصبح أنشط ميناء بحرى فى العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير النفط، ومركزًا عالميًا رئيسيًا للصناعات التحويلية والخدمات، ليرتفع بذلك المتوسط السنوى لدخل الفرد من 1000 دولار أمريكى لدى حصولها على الاستقلال، إلى قرابة 57 ألف دولار اليوم. نحن الآن نتحدث عن رحلة الصعود المذهلة لسنغافورة، والتى اعتبرت واحدة من معجزات القرن الماضى، كما نتحدث عن مؤسسها الأول (لى كوان يو)، وهو الاسم الذى يجب أن نحفظه جيدًا فهو أول رئيس وزراء لسنغافورة، وهو الذى قاد مسيرتها نحو الاستقلال، وترأس حكومتها لأكثر من ثلاثة عقود، ويعرف على نطاق واسع بصانع معجزة سنغافورة التنموية وارتقائها من بلد نامٍ فى العالم الثالث إلى العالم الأول، على حد تعبيره، فى كتابه الذى يحمل نفس الاسم، والذى قدم له "هنرى كيسنجر" وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأسبق بقوله: إن (هنالك كتبًا تعلمك كيف تشيد منزلاً، وتصلح محركًا، وتؤلف كتابًا، ولكننى لم أر كتبًا حول كيفية بناء دولة انطلاقًا من مجموعة من المهاجرين اليائسين القادمين من الصين والهند وجزر الهند الشرقية (الهولندية)، أو كيف يكسب شعبها لقمة العيش حين تتوقف عن لعب دورها الاقتصادى السابق كمركز محورى للتصدير والاستيراد فى المنطقة). ولكن.. كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات؟.. وكيف ضمنت هذه الدولة الاستمرارية فى واحدة من أسخن مناطق العالم؟.. تكمن الفكرة الأساسية التى اعتمدت عليها سنغافورة فى تحقيق معجزتها على بناء الإنسان، وقبله الاعتماد على القيم الحضارية والتاريخ والتقاليد، كما ركزت بشكل كبير على سياسة تعميم التعليم، وتحديثه باعتماد أفضل المناهج فى العالم، حيث تتصدر سنغافورة دائمًا الأوليمبياد الدولى فى امتحانات المواد العلمية. ومن أهم الجوانب التى ركز عليها "لى كوان يو" الثقة بالمسئولين والموظفين الشباب الذين تمتعوا بالاستقامة والأمانة والذكاء والطاقة، والدافع إلى القدرة على التنفيذ، حتى لو افتقدوا الفطنة التجارية.. ويقول "لى": (إن توجب علىّ اختيار كلمة واحدة لتفسير سبب النجاح الذى حققته سنغافورة فسوف تكون "الثقة")، فهى التى جعلت المستثمرين الأجانب يفضلون سنغافورة لإنشاء مصانعهم ومنشآتهم ومصافى نفطهم، وبحلول التسعينيات أصبحت ثالث أكبر مركز لتكرير وتجارة النفط، بعد نيويورك ولندن وأصبحت منتجًا رئيسيًا للبتروكيماويات. هناك عامل آخر فى غاية الأهمية، وهو اعتماد الحكومة السنغافورية على أجهزة إدارية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالى 50 ألف موظف لا أكثر)، وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة، كما أن التعيين فى مختلف الوظائف يتم عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، بينما يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى (200 ألف دولار راتبًا سنويًا للوزير كمثال)، إلى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الإدارى والمالى، إلى حد أن سنغافورة تتصدر حاليًا مؤشر الشفافية الذى تصدره منظمة الشفافية الدولية. معجزة سنغافورة تضرب لنا النموذج على العزم والتصميم على بلوغ الأهداف مهما كانت الصعوبات والإمكانات المادية، كما تتجلى فيها بوضوح القدوة والنموذج الصالح الذى يجب أن يقتدى به الشباب فى حياتهم العملية من أجل تحقيق التقدم والرخاء والازدهار، دعونا نقرأ ما بين السطور وننطلق منها للمستقبل، وعندها.. أعدكم بأن المعجزة المصرية سيتحدث عنها الجميع. mwsad@@hotmail.com