ليس صحيحا ان الحديث في السياسة يبعث علي النكد ووجع القلب فقط، فهو يبعث علي المرح والفكاهة أيضا، وهو يمكن ان يقوم بدور فاعل في مقاومة الكآبة التي حلت بعالمنا العربي! لن أذهب بك بعيدا، بل انني سأنقل لك جانبا من الانتخابات الرئاسية في مصر، وسوف يستقر في وجدانك ان الأمر باعث علي الضحك، ومحرض علي الابتسام في أسوأ الأحوال، بالنسبة للذين اعتادوا علي النكد، وتربوا في أحضان الألم، ممن ظننا أنهم أصبحوا فاسدي المزاج ليس لهم علاج! وقد بدأت الفكاهة مبكرا، ومنذ الساعات الأولي لفتح باب الترشيح وتقديم الأوراق للجنة المختصة، التي صدر قرار بتشكيلها من قبل مرشح الحزب الحاكم، بصفته رئيسا للجمهورية. فقد كان واضحا للعيان، ان هناك اتجاها في السلطة الحاكمة لتحويل الأمر الي ما يشبه الكوميديا، فقد تم السماح للجميع بأن يتقدموا بطلبات للترشيح، ورأينا بسطاء وقد توافدوا الي هناك، وحرص الإعلام علي التقاط الصور لهم، بشكل يوحي أننا أمام هتره ، علي حد تعبير أهلنا في المنيا بصعيد مصر، والهتره تعني التقليل من القيمة والقدر، فتقول فلانا هترني أي أهانني! الهترة هي ابنة عم هرتلة ، والهرتلة يوصف بها المتحدث عندما يقول كلاما غير مسؤول، او خارج السياق، او تحميلا للأمور أكثر مما تحتمل. والهرتلة مصطلحا منوفيا، نسبة الي محافظة المنوفية، مسقط رأس مرشح الحزب الحاكم لانتخابات الرئاسة، وبها توجد مدرسة المساعي المشكورة، التي ألقي بها خطابه الذي دشن به حملته الانتخابية! بعض الأشخاص الذين تقدموا للترشيح، مثل ظهورهم في المشهد هترة للعملية الانتخابية، وقد دخلت تصريحاتهم لوسائل الإعلام في باب الهرتلة ، وكان طبيعيا وأحدهم الذي كان يحمل شنطة خبز، تبين انه مصاب بمرض نفسي، حسب ما كتبه أحد الأطباء النفسيين، إذ قال إنه مريضه، وطالب الكتاب بعدم السخرية منه، حتي لا يتسبب هذا الي تعرض حالته الصحية لانتكاسة! البعض قال ان أجهزة بعينها هي التي دفعت بهؤلاء الي هناك، حتي تسيء للمشهد برمته، وهي تظن أنها تحسن صنعا، وتوحي للدنيا انه لا بديل عن الرئيس مبارك، وان ما عداه ركش ، أي أناس لا قيمة لهم ولا وزن، وعليه ان نقبل أيدينا وجها وظهرا لأنه قبل ان يضحي بنفسه من أجل الأمة، وعلي النحو الذي ذكره ممتاز القط، أحد الرؤساء الجدد للمؤسسات الصحفية القومية، إذا قال لا فض فوه، ومات بالسكتة القلبية كارهوه، وهو يبين حجم التضحيات التي يقدمها الرئيس مقابل استمراره في الحكم، ان الرئيس لا يأكل إلا خضار سوتيه، ولا يشم رائحة طشة الملوخية، ويحرم نفسه من المحمر المشمر.. وهي تضحيات جمة كما هو واضح! وما كتبه قط أخبار اليوم يدخل في باب الفكاهة الانتخابية، وهو مقال أنصح عموم القراء بالاطلاع عليه علي موقع الجريدة بالانترنت، وهو يحمل عنوان: حمال الهموم ، وعلي وجه الخصوص الاخوة المصريين، لأنه مؤكد انه سيسري عنهم، وقد ينسيهم مشكلة ارتفاع إيجار الشقق في الدوحة، بشكل نكد عليهم حياتهم! لست من أنصار نظرية المؤامرة، وبالتالي لا أستطيع ان أروج لما قاله البعض من ان أجهزة بعينها هي التي زجت بهؤلاء الي الصدارة في العملية الانتخابية، حتي تهترها، مع ان عهدنا بها ان تفعل مثل هذه الأشياء. ما علينا، فإذا تركنا هؤلاء البسطاء - وبعضهم من المرضي النفسيين - لاكتشفنا ان غيرهم لم يكونوا بأفضل حالا منهم! التعديلات التي أدخلت علي المادة 76 من الدستور، وكذلك النصوص القانونية الخاصة بانتخابات الرئاسة، والتي نقلتنا بحمد الله من زمن الاستفتاءات الي عصر الانتخابات، جعلت المنافسة من حق الأحزاب السياسية - هذه المرة - وبدون شروط تعجيزية، فيكفي ان يكون الحزب قد نشأ قبل شهر مايو الماضي، حتي يحق له ان يرشح أحد قياداته، أما المستقلين - في هذه المرة وكل مرة - فينبغي علي من يريد ان يرشح نفسه ان يأتي بموافقة 250 عضوا في مجلسي الشعب والشوري والمجالس البلدية، وبالتالي أصبح صعود جبال الهمالايا بالنسبة للمستقل أسهل من الترشيح لانتخابات الرئاسة! وتبقي المشكلة في ان اللجنة المختصة بقبول أوراق المرشحين، سمحت للبعض بأن يحصلوا علي لقب مرشح طوال فترة فتح الباب الترشيح الي ان أغلق، وتم إعلان عدد المرشحين الذين تنطبق عليهم الشروط، وكانوا عشرة بالصلاة علي النبي، كلهم من الأحزاب وليس بينهم مستقل واحد! ومن الطبيعي ألا تحصل اللجنة علي أي أوراق من مرشح ما لم يستوف شروط الترشيح، وأذكر في هذا الصدد انه عندما ترشحت لانتخابات مجلس الشوري، كادت اللجنة المختصة ان ترفض قبول الأوراق، لأنه لم يكن معي أصل شهادة الخدمة العسكرية، مع ان القانون يعفي من تجاوز الخامسة والثلاثين من تقديمها، لكن وزير الداخلية جعلها، في تعليمات منه إلي هذه اللجان، من الأوراق التي يتقدم بها طالب الترشيح، بعد ان أثيرت مشكلة النواب الهاربين من التجنيد، وبعد أخذ ورد، وقعت تعهدا بتقديمها قبل إغلاق باب الترشيح وإلا اعتبرت نفسي غير مرشحا! واحدة من اللاتي حصلن علي لقب مرشحة، اكتفت بالذهاب الي اللجنة، وعادت منها الي نقابة الصحفيين لتعقد مؤتمرات صحفية، وتجري حوارات لا أول لها ولا آخر، باعتبارها المرأة التي خرجت علي التقاليد وترشحت، وقد فعلت نيولوك، وتسريحة تليق برئيسة الجمهورية، وبين الحين والآخر كان يزورها زوجها بحلة أنيقة، وبما يليق بزوج الهانم رئيسة البلاد، فتلتقط له بعض الصور معها، ويدلي بتصريح هنا وآخر هناك، ويتحدث عن تحضره ورقيه، وكيف انه لم يقف حجر عثرة، في سبيل طموح زوجته في أن تخدم وطنها عن طريق كرسي الرئاسة، مضحيا بأمنه العائلي، من أجل أمن مصر! وقد كانت السيدة الفاضلة تعلم توجه كل مطبوعة، فتسير علي توجهها بشكل يضمن نشر الحوار، وما تيسر من الصور، وهي في أوضاع مختلفة، وكأنها تصور فيديو كليب لأغنية. أحد المصورين فرقع في وجهها فيلمين في ظرف ربع ساعة، وبشكل مبالغ فيه وهستيري، حتي ليظن الجاهل، ان سماحته التقي بكونداليزا رايس بدون ترتيب، فلم يستطع ان يتحكم في إصبعه، وهو يلتقط كل هذه الصور! انه الفراغ الصحفي، وهو ذاته الذي جعل الست المرشحة تبدو كما لو كان الحوار معها سبقا عظيما وفتحا مبينا. لقد كنت مستمتعا بالنظر للمرشحة، وهي تتحدث، وهي تلوح بيدها، وتصفف شعرها، وتنتقل من طاولة حيث يجلس رهط من شباب المحررين، الي أخري، وقد اكتشفت ان خطوات رؤساء الدول تختلف عن خطوات الرعية. ولأنني جالس عن بعد فلم أتمكن من معرفة ما تقوله في تنقلاتها، بيد أني كنت أسأل عن أهم ما قالته، فاكتشف ذكائها الحاد، ففي حوارها مع جريدة العربي التي يصدرها الحزب الناصري مثلا بدت معارضة كما لو كانت مانديلا في شبابه، وفي الصحف الحكومية، فتظن أنك أمام سمير رجب او ممتاز القط أرجو أن تكونوا قد فرغتم من قراءة مقاله عن طشة الملوخية التي يمنع الرئيس من شمها ! في العربي هتفت ضد التوريث والتأبيد، وفي مجلة حكومية قالت إنها إذا لم توفق في الترشيح فسوف تؤيد الرئيس مبارك، مؤكدة أن حرمه السيدة سوزان مبارك هي مثلها الأعلي في الحياة! وبالطبع لم تكن من بين الذين تقرر ترشيحهم، وان كان هذا لم يمنعها من الحصول علي اللقب، ونشر صورها في الصحف السيارة، لمدة أسبوع كامل! فإذا تركنا هذه الحالة وجدنا حالات أكثر فكاهة، من المرشحين الحاليين، ومن الأحزاب الفكاهية التي أقرتها السلطة، في الوقت الذي حجبت الشرعية عن قوي فاعلة في المجتمع وأحزاب جادة! فبعض المرشحين هؤلاء قالوا إنهم يؤيدون الرئيس مبارك مرشح الحزب الحاكم ، مع ان كل واحد منهم لهف ربع مليون جنيه للإنفاق علي الدعاية الانتخابية، لن يصرفوا منها مليما أحمر. الحاج أحمد الصباحي رئيس حزب الأمة هو المثال الأبرز بين هؤلاء، وهو يقول ان برنامجه هو ذاته برنامج الرئيس، والذي اقتصرت مطالبه الفتاكة في عودة الطربوش غطاء الرأس للمصريين. وهو رجل له باع طويل في تفسير الأحلام وقراءة الكف، وله اختراعات لوذعية مثل الكرة الصاروخية، وما الي ذلك! عمنا الحاج أحمد قال نصا: لو نجحت لا قدر الله في انتخابات الرئاسة فسوف أتنازل للرئيس مبارك، كما قال انه صوته هو شخصيا سيعطيه للرئيس، ولم يسأل أحد ولماذا تم منحه نصف مليون جنيه من لحم الحي، في بلد يطفح كثير من أبنائه الكوتة حتي يوفروا قوت يومهم؟! ان السبب هو تحويل انتخابات الرئاسة الي كوميديا، ولعلهم يهدفون الي الترويج بأن الحياة الحزبية في مصر أصبحت مسخرة من العيار الثقيل، وهم لا يعلمون انهم بذلك يعطون مشروعية للحركات الشعبية، التي لم تمنع تجربة الأحزاب التي أريد لها ان تكون علي هذا النحو من انطلاق هذه الحركات، بل ان ضعف الأحزاب كان مبررا لنشوء حركات تجاوزت حركة الموتيي في أحزاب المعارضة صناعة الحكومة! وهناك هدف آخر من هذه المسخرة، هو الإيحاء بأنه لا بديل عن مبارك. وهو أمر يجعلنا نضع أيدينا علي قلوبنا مخافة تدخل عزرائيل لأن تدخله سيجعلنا نلجأ الي استيراد رئيس من الخارج، ما دام الحاج أحمد ورفاقه هم البديل! عموما دعك من هذه الوصلة النكد، واستمتع بالحاصل عندنا علي مسرح الانتخابات، فمن المؤكد انه سيغنيك عن مشاهدة فيلم عادل إمام السفارة في العمارة ! ---- صحيفة الراية القطرية في 31 -8 -2005