في مصر المحروسة نقول: ' بانت لبتها'، وهي عبارة نقولها عندما يتضح أمر، وتنضح بداياته بمضمونه، وأقولها الآن ونحن علي أعتاب انتخابات برلمانية جديدة. والمناسبة هو ما تم الإعلان عنه من ان الحزب الحاكم قد حجز لمرشحيه رمزي الهلال والجمل، الأول لمقعد الفئات، والثاني لمقعد العمال، حيث يمثل كل دائرة انتخابية اثنان من النواب، أحدهما علي الأقل من العمال! معلوم ان لكل مرشح في الانتخابات رمزاً انتخابياً، وهو لا يختاره، ولكن يحصل عليه حسب ترتيبه في ترتيب أوراق ترشيحه، وعندما خضت الانتخابات التكميلية لمجلس الشوري في مسقط رأسي بصعيد مصر، كان رقمي ،13 ورمزي المسدس، وربما وجدت الجهة التي تتلقي أوراق الترشيح حرجا في الرمز، باعتباره يعبر عن الإرهاب، وقد بدا الموظف المختص مرتبكا، قبل ان يخبرني به، وقد ذهب بي الي مدير امن محافظة سوهاج، الذي اخبرني بالرقم، ومن ثم اخرج كتاب الرموز، وطالبني ان أطالع الرمز بنفسي، حتي لا اتهم جهات الأمن بأنها تسعي الي تشويهي، ولم اكن أجد في الأمر ما يدعو لكل هذا، فالمسدس من وجهة نظري هو رمز القوة، وهذا ما يراه الصعايدة، علي العكس ما اذا كان رمزا لمرشح في دائرة الزمالك ومصر الجديدة مثلا، وغيرهما من الدوائر ' الفافي'! وقائمة الرموز الانتخابية في مصر تضم عددا من الرموز المسخرة، والتي تجعل خصوم المرشح الذي يصادفه الحظ فيكون رمزه من هذه النوعية، يتخذونه سخريا، مثل رمزي: الكنكة، والجردل. والكنكة هي ذلك الإبريق الصغير الذي يتم صنع القهوة فيه، ولا يتسع الا لفنجان واحد في الأغلب، ومع هذا فانه يعد من قبيل السباب ان تصف إنسانا بأنه كنكة، او جردل، او مقطف. والمقطف ليس رمزا انتخابيا، علي العكس من الكنكة والجردل. وهناك بعض الناخبين، من يتمكنوا بلباقة من ان يخرجوا من ورطة استخدام خصومهم لرموزهم في الإساءة إليهم. وفي الانتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر في سنة 1987 كانت الكنكة هي الرمز الانتخابي للشيخ يوسف البدري، فكان يقول للناخبين مازحا: اعطوني صوتكم مضبوطا، ولمنافسي علي الريحة، وقد أعطاه الناس أصواتهم وفاز في هذه الانتخابات، ولم يعطوا منافسه أصواتهم علي الريحة، وانما أعطوها له 'سادة'، وهو نوع القهوة الذي يوزع في المأتم، أي بدون سكر البتة، حيث سقط المنافس سقوطا مفاجئا، وكان يشغل موقع وزير الإنتاج الحربي، في تجربة لن تتكرر، وقد أدارت النتيجة غير المتوقعة دماغ الشيخ البدري، فكان أداؤه في البرلمان متخبطا، ليسقط في الانتخابات التالية، ولم يبك عليه أحد، واصبح عبرة لمن يبتغي العزة في جوار السلطان! يقولون ان قائمة الرموز الانتخابية تضم مائة رمز، تبدأ بالهلال، ثم الجمل، فالوردة، فالمركب، فالشمسية، فالسيارة، فالنجمة، فالنخلة، وهو أسلوب ضروري للتغلب علي مشكلة الامية، وتعريف الأميين برموز المرشحين، حتي يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم، وفي بعض البلدان تتم الاستعاضة بمثل هذه الرموز بالألوان، وهو يصلح في الانتخابات بالقوائم الحزبية، لان الألوان لا تسعف في الزيادة الحاصلة في تزايد عدد المرشحين، وفي بعض الدوائر المصرية يتجاوز عددهم الثلاثين مرشحا! بعض المثقفين يتحدثون من أبراجهم العاجية، وينظرون الي الرموز الانتخابية علي انها سبة في جبين الحياة النيابية، فعيب علي مصر رغم تاريخها النيابي الطويل ان تتعامل بمثل هذه الأدوات المتخلفة، وهم لا يضعون حلولا، لانهم بحكم عيشتهم في الأبراج سالفة الذكر لا يعترفون ان هناك من لا يجيدون القراءة والكتابة في البلاد! واذا كان القانون ينص علي ان حجز الرموز يكون حسب تقديم أوراق الترشيح، وحسب نظرية: 'بختك يا ابو بخيت'، فانه قد جري العرف، والعرف ليس قانونا، علي ان الحزب الحاكم في البلاد يستولي علي رمزي: الهلال والجمل، أي الرمزين: الأول والثاني، وهناك نوادر للبعض لم تكن تهدف للحصول علي ايهما، فهذا ضرب من المستحيل، وانما تهدف الي إحراج الأجهزة المعنية، وهي للعلم، ومنذ ان غنتنا فايزة احمد: 'معدش فيها كسوف'، وهي لا تخجل. فهناك من ذهبوا ليلة فتح باب الترشيح وناموا أمام مديريات الأمن، ليكونوا اول من يتقدمون بأوراقهم، ومع هذا لم يحصلوا علي أي من الرمزين! وهذا الاستحواذ، يؤكد انه منذ ان عرفت البلاد الرموز، ومرشحو الحزب الحاكم في طول المحروسة وعرضها استيقظوا صباحا، وكانوا اول من يتقدم بأوراقهم للجان تلقي الطلبات، ولم تروح علي واحد منهم، مجرد واحد، نومة، او ان يكون واحداً منهم- مجرد واحد- قد أكل آكلة دسمة كبست علي مراوحه فاستيقظ متأخرا في هذا اليوم الفضيل. كما يعني هذا الاستحواذ، انه لا يوجد واحد من بين المرشحين المعارضين، او المستقلين، من نجح/ ولو بفضل دعاء الوالدين، في ان يسبق منافسه مرشح الحزب الحاكم في أي مرة، فيفوز بأي من الرمزين.. أرزاق، فمعلوم ان الدنيا اذا أقبلت باض الحمام علي الوتد، واذا أدبرت طار العصفور من القفص! بمرور الوقت اصبح معلوما من الانتخابات بالضرورة ان رمزي الهلال والجمل ملكية خاصة بالحزب الوطني الحاكم، وهناك نوع من الملكية يتم إثباته بوضع اليد، وهو امر يتساوي فيه واضع يده علي السلطة، بواضع يده علي الأراضي المملوكة للدولة. ولان هناك من تصور ان الرمزين حق للحزب الوطني، فقد دافع عن حق الرئيس مبارك في ان يحصل علي رمز الهلال في الانتخابات الرئاسية، علي الرغم من ان ايمن نور، قد أرسل وكيلا عنه ليثبت حضوره أمام لجنة تلقي الطلبات في الثالثة فجرا، وعن طريق تحرير محضر بالشرطة بذلك، ثم حضر هو نفسه قبل فتح الباب ، ونقلت كل الفضائيات انه كان اول من تقدم، واصر علي رمز الهلال! لكن الرمز كان من نصيب مرشح الحزب الوطني، وهنا انبرت بعض الأقلام لتقول ان هذا حق للرئيس باعتبار ان الرمز خاص بالحزب المذكور، فقد جاء أصحاب هذه الأقلام لكي يكحلوها فأصابوها بالعميي. في حوار أجرته محررة كبيرة 'في السن' بجريدة أخبار اليوم، سألت ايمن نور مستهجنة عن السر وراء إصراره علي الحصول علي رمز الهلال، فرد عليها: ولماذا لا احصل عليه- فخرست! ربما يكون السبب وراء إصرار أهل الحكم علي الحصول علي الهلال، والإساءة لحيدة لجنة الرئاسة بحركة لا تقدم ولا تؤخر، يرجع الي انهم رأوا انه لا يليق، ومن باب أخلاق القرية، ان يكون ترتيب الرئيس في قائمة المرشحين تاليا لاحد، لكن الأمر مختلف بالنسبة للرموز في الانتخابات النيابية، فقد كان هذا يهدف الي تسهيل عملية ' التسويد'، أي القيام بالتصويت علي عجالة بالنيابة عن الناخبين، فبدلا من ان ترتكب اخطأ نتيجة السرعة فتذهب أصوات للغير، فان العملية تصبح سهلة وميسورة عندما يكون التسويد خاصا بالمرشح الأول والثاني، أي الهلال والجمل، ومعلوم ان الجهات التي تقوم علي عملية التزوير تتعامل بشكل ارتجالي وغير متقن، فلا وقت عندها للإتقان ولا قدرة! في أحد الانتخابات كانت السلطة قد قررت إسقاط المعارض الكبير الشيخ صلاح ابو إسماعيل، واعدت الخطة ونفذت، وكان هناك من نقلها له، وفي لجنة الفرز التي كان يقتصر الإشراف القضائي عليها، جاء بورقة غير مطوية، وسأل القاضي رئيس اللجنة هل يمكن ان تدخل هذه الورقة بهذا الحجم من هذه الفتحة الخاصة بالصندوق، واجاب الرجل بالنفي، فلا بد من طيها حتي تتسع لها الفتحة، وكان ان تم فتح بعض الصناديق للفرز، ليشاهد الرجل ورق التصويت مفتوحا و'متمطعا' في الصناديق، فالذين زورا إرادة الناس وشحنوا الصناديق الي اللجان ' مسودة' وليست فارغة، تكاسلوا عن طي الأوراق، ليتم استبعادها وينجح الشيخ صلاح! لقد أعلن الرئيس مبارك ان الانتخابات القادمة ستكون نزيهة، وتم تشكيل لجنة الانتخابات البرلمانية برئاسة وزير العدل، وقالوا ان كونه حل محل وزير الداخلية فهذا 'أمارة' علي نزاهتها، وكأن وزير العدل لا يتبع السلطة التنفيذية شأن وزير الداخلية، وكأنه لم يعينه في منصبه من عين وزير الداخلية! ما علينا، ففي عدد الأهرام الصادر يوم الثلاثاء ( 4 اكتوبر) جاء ان الآهلة والجمال هي رموز مرشحي الحزب الوطني من الفئات والعمال، وانه ابتداء من يوم ( 14 اكتو بر) فان قافلة الجمال والآهلة ستنطلق لتجوب مصر من أقصاها الي أقصاها. لم افهم حدوتة القافلة، لانه إذا تصورنا ان الحزب سيأتي بمجموعة من الجمال لتلف أنحاء البلاد وتتقدمهم ناقة معتبرة، فإننا لا نعرف كيف سيحصلون علي الاهلة، ومعلوماتنا ان هناك هلالاً واحداً، وعلي الرغم من علمنا ان قادة هذا الحزب يسرقون الكحل من العين، الا انهم وعلي الرغم من هذه القدرة الخارقة لا يستطيعون سرقة الهلال من السماء واستنساخه لتشكيل قافلة منه تمشي جنبا الي جنب مع قافلة الجمال! الذي يعنيني في الخبر المنشور هو هذه الشجاعة علي المجاهرة بالمعصية، واضح لانه 'معدش فيها كسوف'. وقد ظننت للوهلة الأولي ان من كتب الخبر هو صحفي غشيم، لا يعلم ان الهلال والجمل ( قانونا) ليس ملكية خاصة بمرشحي الحزب الحاكم، لكن حدث ان نشرت جريدة الجمهورية في صدر صفحتها الأولي يوم الخميس ( 6 اكتوبر) خبرا يؤكد ان مرشحي الحزب الحاكم استحوذوا علي الهلال والجمل.. هل هي بحاجة-.. يجوز.. وهل يأتي هذا الكلام في سياق ان من يزمر لا يغطي ذقنه.. أيضا يجوز! لكن من الواضح ان لبتها بانت، وان الانتخابات البرلمانية لن تكون نزيهة، والعينة بينة، واول القصيدة كان كفرا بواحا! ------- صحيفة الراية القطرية في 12 -10 -2005