يزداد إبهار الشاشة الفضية في رمضان الذي أصبح الموسم المفضل لعرض أجود إنتاج إعلامي علي كافة المستويات حتى أن المشاهد يصاب بالتخمة البصرية من كثرة المعروض، وللأطفال نصيب لا يستهان به في تلك المواد الإعلامية حيث تتسابق عدة قنوات متخصصة في عرض سلاسل تمثل أشهر قصص كتبت للأطفال علي مدار التاريخ الإنساني كله وتغطي خريطة العالم من الشرق إلي الغرب منذ حكايات ألف ليلة والشاطر حسن وأساطير الصين القديمة حتى أحدث الابتكارات الغربية الحديثة مروراً بالمجلات العربية الجادة والتي تهدف إلي دس جرعة ثقافية داخل المادة الترفيهية ، هذا إلي جانب البرامج التثقيفية والتعليمية المباشرة، ويشاهد الطفل كل ذلك بحكم اتساع مساحة الفراغ لديه وجاذبية المواد المقدمة إليه. إلي جانب التلفزيون هناك أيضاً الكمبيوتر الذي أصبح بكل بيت والمكتبات العامة التي تكتظ بأشكال متنوعة من كتب تقدم للأطفال المعلومة بألف شكل وألف طريقة، كل تلك المقدمات كان المفروض أن يترتب عليها نتيجة مؤكدة هي ازدياد وعي الطفل واتساع مخزونه الثقافي والمعرفي. يظهر عكس ذلك تماماً في برامج المسابقات التي تختبر المعلومات البسيطة والمباشرة والبديهية والتي يعجز الأطفال فيها عن الإجابة عن أي سؤال مهما كانت سذاجته ، وحتى عندما يذكر مقدم البرنامج الإجابة الصحيحة وهو يشير للطفل أن يرددها خلفه ، فلا يحير الطفل جواباً ويكتفي بابتسامة مسطحة ونظرة بلا معني كأنه يتحدى مقدم البرنامج ويقول له لا تحاول معي ، لا فائدة ، إيدك مني والأرض. أدهشتني هذه الملاحظة بشدة وأتمني أن يوليها المتخصصون عنايتهم بالبحث لماذا لا يؤدي الفيضان المعرفي إلي زيادة الوعي وارتفاع المستوي الثقافي عند الطفل ؟ بل يحدث العكس. جاء في بحث هام أجري في انجلترا بعنوان الأطفال والإدمان التلفزيوني حاول أحد الآباء استغلال فرصة اندماج طفلة في مشاهدة برنامج عن إضراب عمال السكك الحديدية فقال له : هل تحب أن أشرح لك ما تشاهده يحدث أمامك ؟ فرد الطفل بلا مبالاة : لا أنا أشاهد فحسب. نعم ، إنهم يشاهدون فسحب ، تمر أمامهم مشاهدة مبهرة ملونة تخطف أبصارهم وتستدعي انتباههم ،إنهم يسترخون وقد أغلقوا عقولهم وفتحوا عيونهم لأقصي اتساع ، إنهم يمارسون متعة الحملقة والاستمتاع بالاسترخاء المتبلد أمام الشاشة المضيئة. عندما كان الأطفال في الماضي يتحلقون حول " القرداتي " وهو يقوم باللعب مع القرد وجعله يقدم استعراضاً لمهارته الحركية المضحكة هل كان هؤلاء الأطفال يفكرون في القرد كحيوان ثديي من طائفة الفقاريات ويبحثون عن معلومات علمية خاصة بصفاته التشريحية وعاداته ؟ بالطبع لا ، كانوا يشاهدون للتسلية فقط ودغدغة حواسهم ليضحكوا ويستمتعوا ، عندما يعود كل منهم إلي بيته يكون قد نسي كل شيء عن القرد وصاحبه. هذا ما يحدث لأطفالنا عند مشاهدة التلفزيون ، مجرد عيون مفتوحة علي اتساعها لا تستوعب شيئاً ، كما أن الإغراق بالمعلومات والمشاهد يؤدي إلي نتيجة عكسية فللعقل سعة محدودة لا يمكن تجاوزها فإذا زادت كمية المعلومات زيادة كبيرة فإن الطفل يتصرف طبقاً للقاعدة الذهبية لمواجهة هذه المواقف يسمع من هنا " الأذن اليميني " ويخرج من هنا " الأذن اليسرى " . إننا أمام محاولات فاشلة لملء قربة مثقوبة ينزل فيها الماء بغزارة وبشكل متواصل فتستقبله من ناحية وتلفظه من الناحية الأخرى لينساب علي الأرض بلا معني ولا جدوى. هناك عامل آخر شديد الأهمية وهو أن العملية التعليمية والتثقيفية هي عملية تجاوب متبادل بين طرفين يبذل كل منهما جهده لتتم بشكل ناجح ، أي أن المتعلم لا بد أن يقوم بدور إيجابي في تركيز انتباهه واهتمامه الحقيقي بالحصول علي المعلومة والسؤال بخصوص تفاصيلها وهكذا حتى يستوعبها أما لو اكتفي بالاستمتاع السلبي وهو شارد الذهن فلن يستوعب شيئاً. لابد من تفعيل دور التلفزيون بالذات حتى يصبح أداة تثقيفية وليس ترفيهه فقط، وليسهم ولو جزئياً في تنبيه وعي الطفل وليس تغيبه ، ولتصبح المشاهدة عادة إيجابية يتم فيها تفاعل حقيقي متبادل بين عقول متفتحة وأذهان يقظة وليس فقط عيون مفتوحة علي اتساعها.