لا يتوفر لدى اليابان سوى قدر محدود جدًا من مصادر الطاقة المحلية؛ حيث تستورد 84% من متطلباتها من الطاقة.. وتعد اليابان ثالث أكبر مستهلك ومستورد للنفط الخام فى العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين، كما تعتبر المستورد الأول عالميًا للغاز الطبيعى المسال، والمستورد الثانى للفحم وفقاً لإحصاءات يونيه عام 2012.. وفى 11 مارس 2011 ضرب زلزال بقوة 9 على مقياس ريختر ساحل مدينة "فوكوشيما" مسببًا موجات هائلة من طوفان المد البحرى الذى دمر هذه المنطقة بالكامل.. وقد تسبب ذلك فى الإغلاق الفورى لأربعة مفاعلات نووية كانت تمد اليابان بطاقة كهربائية مقدارها 12 ألف ميجا وات، بالإضافة إلى تعطيل العديد من محطات توليد الطاقة، وأبراج الضغط العالى، ومحطات توزيع الكهرباء، ومصافى تكرير البترول.. وقد تسبب إغلاق جميع المفاعلات النووية بين مارس 2011 ومايو 2012 فى فقدان جميع الطاقة الكهربائية المولدة منها.. وقد دفع ذلك الحكومة اليابانية إلى استيراد كميات ضخمة من الغاز الطبيعى المسال، والنفط الخام، والبنزين.. وعلى الرغم من هذا الدمار الهائل، إلا أن الشعب اليابانى استطاع أن يقف مرة أخرى على قدميه؛ حيث بلغ الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى 5.87 تريليون دولار فى عام 2011.. والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن: ما هى العوامل التى تقف وراء هذه النهضة؟.. ويتطلب الإجابة عن هذا السؤال دراسة عوامل حدوث النهضة فى المجتمع اليابانى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد واجهت اليابان موقفًا عصيبًا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية.. كان الاقتصاد ممزقًا نتيجة للانخفاض الشديد فى الواردات، ولم تكن الدولة تستطيع إطعام سكانها.. بل لقد مات المئات جوعًا فى منطقة العاصمة طوكيو وحدها.. وجاع السكان بصفة دائمة، وانتشرت الجريمة، وساد اليأس المطبق، وفقد الأمل فى بناء مستقبل أفضل.. وعلى الرغم من هذه الأوضاع المأساوية آمن القادة السياسيون بقدرة اليابان على استعادة مكانتها المفقودة مرة أخرى. وتم تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية بعد أكتوبر 1945؛ حيث تم إلغاء قانون الطوارئ، وتم رفع كل القيود التى كانت مفروضة على وسائل الإعلام والمنظمات الاجتماعية والسياسية، وتم تطهير الوزارات الحكومية والأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية من السياسيين الفاسدين، وتم إصدار قوانين جديدة للإصلاح الزراعى، وتم القضاء على الاحتكارات الاقتصادية.. وبحلول أكتوبر 1946 تم إصدار دستور جديد يمنح السيادة للشعب. وأصبحت نظرة الشعب إلى الديمقراطية على أنها "هبة من السماء".. وامتنعت غالبية الشعب اليابانى عن الاشتراك فى الإضرابات والمظاهرات العمالية.. وكانت هذه الغالبية ترفض استخدام العنف لتحسين الظروف الاجتماعية حتى فى حالة عدم الرضا عن أداء بعض الأحزاب السياسية الجديدة. ونتيجة للاستقرار السياسى والاجتماعى ازدادت معدلات النمو الاقتصادى بعد عام 1951.. وبحلول عامى 1952 و1955 كانت معدلات الإنتاج فى قطاعى الإنتاج الرئيسى والثانوى قد وصلت إلى مثيلاتها فى عام 1940.. وقد بلغ معدل النمو فى الناتج المحلى الإجمالى 8.9%، و9%، و10.9%، فى الفترات 1956/1960، و1961/1965، و1966/1970 على الترتيب.. وقد بلغت مساهمة القطاع الصناعى فى الناتج المحلى الإجمالى فى عام 1965 ما مقداره 33.7%، مقارنة ب 28.4% فى عام 1955، فى حين انخفضت مساهمة قطاع المواد الخام من 19.9% إلى 9.8% خلال نفس الفترة.. وهكذا تحولت اليابان إلى دولة ثرية.. وبحلول عام 1968 أصبح نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى 6055 دولار أمريكى. لقد اعتمدت النهضة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، على الخطط القومية والبرامج القطاعية فى توجيه الاقتصاد وتحديد أولويات السياسات الاقتصادية والاجتماعية.. وكانت الأولوية الأولى للشعب اليابانى خلال عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى هو اللحاق بالدول الصناعية الغربية المتقدمة.. وقد نجح هذا الهدف فى رفع جودة البنية التحتية الصناعية، واعتمدت الخطط الاقتصادية القومية على النماذج التنموية التى وضعتها وزارة التجارة الخارجية والصناعة.. ومن ثم استطاعت الصناعة الوطنية تسريع معدلات التفوق الصناعى.. وقد أدى التأكيد على تجويد الهياكل الصناعية إلى تشجيع الصناعات الثقيلة والصناعات الكيميائية من خلال الخطط القومية.. ومن أمثلة هذه الخطط: الخطة الاقتصادية طويلة المدى 1958/1962، وخطة مضاعفة الدخل القومى 1960/1970.. وفى حين ركزت الخطط القومية آنذاك على صناعة الآلات نظرًا لمعدلات نموها السريع ولاستيعابها أعداد كبيرة من العمالة، إلا أن الخطط اللاحقة ركزت على تنمية صناعات البتروكيمياويات والإلكترونيات.. وقد أسهمت خطة مضاعفة الدخل القومى فى رفع الروح المعنوية للشعب اليابانى.. وقد عزز معدل النمو الاقتصادى المرتفع المستمر ومعدلات التصنيع السريعة فى زيادة معدلات تفاؤل الشعب اليابانى وثقته فى تحقيق النهضة الاقتصادية.. ومن ثم دخلت اليابان فى مرحلة جديدة من التنمية تتميز بالتقدم التكنولوجى الهائل.. وكان الهدف من هذه الخطة هو ضمان استمرارية معدلات النمو الاقتصادى المرتفعة والتقليل من معوقات النمو الاقتصادى عن طريق توفير رأس المال الاجتماعى على المدى الطويل، والتخطيط لتجويد الهياكل الصناعية، وتنمية مهارات وقدرات القوى العاملة، وتشجيع العلوم والتكنولوجيا، وتصحيح الاختلالات الاقتصادية. وقد كانت خطة مضاعفة الدخل القومى تعبيرًا واضحًا عن سياسة التنمية الاقتصادى الموجهة لتحقيق النمو.. وقد وضع رئيس الوزراء اليابانى "هياتو إيكيدا" سياسته المسماة "التمويل الإيجابى" الهادفة إلى زيادة الميزانية الحكومية فى عامى 1961 و1962، وخفض معدلات الفائدة.. وقد نجحت هذه الخطة فى خلق جو من التفكير المستقبلى، وتقليل التشاؤم، وتعزيز الإيمان بقدرات الاقتصاد اليابانى على التفوق.. وقد تعزز تفاؤل الشعب اليابانى مرة ثانية أثناء إعداد الخطة الاقتصادية متوسطة المدى فى عام 1965؛ تلك الخطة التى هدفت إلى تصحيح الاختلالات الاقتصادية.. وقد ركزت هذه الخطة على تحديث القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة مثل: الصناعات الصغيرة والزراعة، وتحسين مستوى المعيشة والرفاهية الاجتماعية.. ولتحقيق ذلك ركزت البرامج الصناعية على الوصول بالصناعة اليابانية للمستوى العالمى، وعلى زيادة الاستثمارات الأجنبية.. وقد هدفت الخطط التنموية اللاحقة إلى تحسين الكفاءة الاقتصادية، وتحديث البنية الصناعية، وزيادة الاهتمام بالأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة. وقد ساهم الإنفاق الاجتماعى على التعليم والصحة والمعاشات وإعانات البطالة وخدمات الرفاه الاجتماعى فى زيادة معدلات النمو الاقتصادى.. وإذا كان الإنفاق الاجتماعى اليابانى كنسبة من الناتج القومى الإجمالى الإسمى قد تراوح بين 8% إلى 9% فى الستينيات من القرن العشرين، إلا أنه قد بدأ فى الزيادة منذ منتصف السبعينيات، ليتجاوز 10% ثم يصبح 12% ثم 17% من الناتج القومى الإجمالى الإسمى فى أعوام 1972 و1974 وأوائل الثمانينيات.. وقد مثل التعليم نصف إجمالى الإنفاق الاجتماعى فى أوائل الستينيات، وكان يقدر بما يتراوح بين 4% إلى 5% من الناتج المحلى الإجمالى خلال عقد الستينيات.. وقد احتل الإنفاق على الصحة والمعاشات المرتبتين الثانية والثالثة من مكونات الإنفاق الاجتماعى.. وقد مثل الإنفاق الاجتماعى ما يتراوح بين 47% إلى 49% من الإنفاق الحكومى الكلى فى عقد الستينيات وأوائل السبعينيات.. وقد نجحت هذه السياسات فى رفع نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2010 ليصبح 34739 دولارًا أمريكيًا. إن على شعبنا المصرى أن يتعلم من المجتمع اليابانى كيفية بناء نهضته الحديثة.. لقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى إفقار الملايين من اليابانيين، وارتفاع هائل فى معدلات البطالة، وانخفاض شديد فى قيمة العملة اليابانية، ونقص حاد فى توافر الطعام، ووفاة وإصابة الملايين.. إلا أن الجهود التى بذلها كل من الشعب والحكومة قد حولت اليابان من ثانى أكبر مقترض فى العالم من البنك الدولى فى منتصف الستينيات من القرن العشرين إلى ثانى أكبر دولة مقدمة للمنح والمعونات الاقتصادية بعد مضى عشرين عامًا فقط.. لقد أسهمت السياسات التنموية الحكومية والهياكل المؤسسية فى توفير الحوافز المالية لتوليد المعارف ونشرها وتوظيفها بصورة فعالة.. والإضافة إلى هذا، فقد ساعدت البنية التحتية المعلوماتية فى تيسير الاستفادة من المعلومات وتطويرها. ونظرًا لسياسات الإنفاق الاجتماعى الناجعة فقد تم تأسيس مجتمع من القوى العاملة المتعلمة عالية التأهيل، والقادرة على زيادة الإنتاج وعلى ابتكار المعرفة.. وهكذا أسهمت الجامعات والمراكز البحثية ومستودعات الفكر والعلماء والشركات فى إنتاج معرفة علمية قادرة على المنافسة وفقًا لأرقى المستويات العالمية، واستطاعت تطويع هذه المعرفة لتلبية الاحتياجات المحلية.